في خطوة جديدة تثير الجدل حول أولويات الحكومة في إدارة موارد الدولة، كشفت وثيقة رسمية عن تشكيل لجنة متخصصة لحصر ومراجعة الأراضي المطلة على ساحل البحر الأحمر، بهدف وضع ضوابط استثمارية جديدة وتعظيم العائد على هذه الأصول.
هذه الخطوة تأتي في إطار ما وصفته الحكومة بـ"تنظيم السوق وتعظيم العائدات"، لكنها في الواقع تكشف عن توجه واضح نحو الاعتماد على بيع الأراضي والرسوم كوسيلة سريعة لجمع الأموال، بدلًا من تبني خطط استراتيجية تدر عوائد مستدامة وتخلق فرص عمل حقيقية.
 

لهاث وراء العوائد السريعة بدلًا من الاستثمار في الإنتاج
التحرك الحكومي لإعادة تقييم الأصول العقارية على السواحل لا يبدو جزءًا من خطة تنمية متكاملة، بقدر ما هو محاولة لتوفير سيولة عاجلة، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتراجع احتياطيات النقد الأجنبي.
مصر المثقلة بالديون تسعى لجذب استثمارات أجنبية مباشرة بقيمة 42 مليار دولار خلال العام المالي الجاري، وهو هدف يبدو أقرب إلى الأماني في ظل البيئة الاقتصادية الحالية التي تفتقر إلى الشفافية والوضوح في السياسات.

بدلًا من التوجه نحو تطوير قطاعات إنتاجية وصناعية يمكن أن تدعم الاقتصاد على المدى الطويل، نجد الحكومة تسير في طريق بيع الأراضي والمشروعات العقارية كخيار أول.
وهو توجه يعكس عقلية الربح السريع التي تضع الدولة في موقف "التاجر" لا "المنظم"، حيث يتم تفريغ الأراضي وطرحها في صفقات بمليارات دون التفكير في القيمة المضافة الحقيقية للاقتصاد.
 

الرسوم.. وسيلة جديدة لجباية الأموال
الأمر لم يتوقف عند بيع الأراضي، بل امتد إلى فرض رسوم باهظة على الشركات العقارية، سواء كانت محلية أو أجنبية.
فقد فرضت هيئة المجتمعات العمرانية رسومًا موحدة تُسدد دفعة واحدة على المشاريع التي تطورها الشركات الأجنبية في الساحل الشمالي، مع فرض رسوم تصل إلى 1000 جنيه للمتر الواحد على المطورين المحليين، بحجة دعم صندوق "تحيا مصر".

هذه الرسوم الضخمة لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها جباية إضافية تهدف إلى سد فجوات مالية عاجلة، لكنها في الوقت نفسه تضع أعباءً ثقيلة على الشركات، وتخلق مناخًا طاردًا للاستثمار.
 

إيقاف الشركات عقابًا.. سياسة تثير الشكوك
الأخطر أن الحكومة أوقفت التعامل مع نحو 50 شركة وجهة لحين سداد مستحقاتها وتوفيق أوضاعها.
هذه السياسة العقابية تثير علامات استفهام حول مدى مرونة البيئة الاستثمارية في مصر، وهل يمكن للمستثمرين أن يثقوا في سوق يعتمد على القرارات المفاجئة والجبايات؟
 

أزمة الديون وبيع الأصول.. حل مؤقت أم فخ طويل الأمد؟
تعويل الحكومة على بيع الأصول العقارية وجذب الأموال الخليجية يظهر بوضوح حالة العجز عن خلق مصادر مستدامة للدخل. بدلًا من الاستثمار في الصناعة، الزراعة، التكنولوجيا، والتي يمكن أن تخلق قيمة مضافة وفرص عمل، نجد الدولة تلهث خلف أموال سريعة من بيع الأراضي.

هذه السياسة تشبه من يبيع أثاث بيته ليسدد ديونه، لكنه في النهاية يبقى بلا أصول ولا دخل مستدام. والأسوأ أن هذه الأموال لا تذهب لتطوير الاقتصاد، بل يتم توجيهها لسد عجز الموازنة وخدمة الديون، ما يعني استمرار الأزمة بل تفاقمها في المستقبل.
 

رسالة سلبية للمجتمع والمستثمرين
تصدير صورة أن الدولة تبيع كل شيء، من الأراضي إلى الأصول العامة، يضعف ثقة المجتمع والمستثمرين على حد سواء.
فبدلًا من أن تكون هناك خطط واضحة لتصنيع حقيقي أو تطوير قطاعات استراتيجية، نرى اهتمامًا مفرطًا في مشروعات عقارية تستفيد منها طبقة محدودة، بينما تظل غالبية المواطنين تحت وطأة الغلاء وانهيار القوة الشرائية.
 

سياسات قصيرة النظر تهدد المستقبل
إعادة تقييم الأراضي الساحلية ليس في حد ذاته أمرًا سلبيًا، لكن المشكلة في منطق التنفيذ والأهداف المعلنة.
فحين تكون الغاية الأساسية جمع أموال عاجلة لتخفيف أزمة الديون، فإننا أمام سياسة قصيرة النظر ستؤدي إلى فقدان المزيد من الأصول، مع بقاء الأسباب الحقيقية للأزمة دون حل.

ما تحتاجه مصر ليس بيع أراضيها وثرواتها، بل إعادة هيكلة الاقتصاد بشكل حقيقي، وتشجيع التصنيع، ودعم الاستثمار المنتج، لأن الثروات العقارية مهما كانت ضخمة ستنفد، لكن التنمية المستدامة هي التي تضمن الاستقرار.