مُنذ 28 مايو 2025، دخل ملف دير سانت كاترين في جبل سيناء (أحد أقدم الأديرة العاملة في العالم، تأسّس في القرن السادس الميلادي) نطاق أزمة قانونية ودبلوماسية تحوّلت سريعًا إلى صراع نفوذ بين الدولة المصرية، المؤسسة الأرثوذكسية اليونانية وملفات داخلية في الدير نفسه.
الحكم القضائي الأخير اعتبر أن الأرض المحيطة بالدير ملك للدولة مع إبقاء حق الاستخدام للرهبان، لكن ذلك لم يطوِ صفحة الاتهامات بأن السلطة تسعى لاستعادة «أصول استراتيجية» من الكنيسة.
حكم المحكمة والتداعيات القانونية
أصدرت محكمة استئناف إسماعيلية قرارًا في 28 مايو 2025 قضى بأن الأراضي المحيطة بالدير ملك للدولة، وأن الإشراف عليها يندرج تحت وزارات مثل الآثار والبيئة، بينما يُبقي على الحق الديني للرهبان في المباني والكنائس.
هذا القرار أشعل خلافًا واسعًا لأن له تبعات على نحو 71 قطعة أرض مرتبطة تاريخيًا بالدير حسب متابعات محلية ودولية، وأثار مخاوف من تحوّل جزء من الموقع إلى إدارة دولة أو متحف.
إغلاق الأبواب والاحتجاج الرهباني
ردًّا على حكم المحكمة، أغلق الرهبان أبواب الدير أمام الزوّار في 6 يونيو 2025 احتجاجًا على ما وصفوه بـ«الانتهاك» لمكانتهم التاريخية وحقوقهم.
هذا الإجراء لم يكن رمزيًا فحسب، بل حفز ضغطًا دبلوماسيًا دوليًا، خاصة من اليونان والكنائس الأرثوذكسية التي تعتبر للدير خصوصية روحية وتاريخية تمتد لأكثر من 1,400 سنة.
دبلوماسية مصر والضمانات الرسمية
على وقع تصاعد التوتر، التقى وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي بنظيره اليوناني جورجيوس جيرابيتريتيس في أوائل يونيو 2025 واتفقا على حماية الوضع القانوني والروحي للدير، مع تأكيد مصري رسمي أن الحكم لا يمس بحقوق العبادة أو الوصول إلى الموقع.
رغم ذلك، تبقى الضمانات الرسمية أقل طمأنة لدى الرهبان ومراقبين دوليين خشية تطبيق تحوّرات إدارية على أرض الواقع.
اتهامات بـ«الاستحواذ» السياسي والاقتصادي
عدد من المعلقين الحقوقيين والسياسيين استعملوا وصف «الاستيلاء على ممتلكات الكنيسة» أو «land grab» لتعريف ما يجري، معتبرين أن هناك خلفية أوسع ترتبط بسياسات الدولة في إدارة أراضي سيناء ومشروعات سياحية واستثمارية قد تستفيد من ضم أراضٍ تاريخية إلى قبضة الدولة.
منظمات حقوقية طرحت أسئلة حول شفافية الإجراءات وغياب تفاوض واضح مع ممثلي الدير.
انقسام داخلي داخل الدير.. انقلاب كنسي؟
تفاقمت الأزمة إلى حد طرد المطران داميانوس من منصبه فعليًا بعد قرار قدمه 15 راهبًا من أخوية الدير لعزله في 30 يوليو 2025، متهمين إياه بإدارة غير شفافة وتمركز نفوذ داخل إدارة الدير التابع لرجل غير رهباني، مما أدى إلى حالة إنقسام داخل الدير نفسه.
تدخل بطريركية القدس بشكل مباشر، مدعومة من الكنيسة الروسية بحسب تقارير، في محاولة لكسب السيطرة الروحية والإدارية على الدير، مما زاد الأزمة تعقيدًا وحوّلها أيضًا إلى معركة نفوذ بين القوى الأرثوذكسية.
خطوة وصفها بعض المراقبين بأنها «انقِلاب داخلي» تزيد من تعقيد المشهد وتفتح بابًا لتدخل أطراف خارجية وداخلية في حسابات النفوذ داخل المؤسسة الديرية، في وقت تفرض فيه الحكومة المصرية واقعًا جديدًا من خلال محاولة السيطرة على الأراضي والممتلكات كموقع استراتيجي وسياحي
هذه التطورات عزّزت رواية تشتيت الصف الأرثوذكسي إقليمياً واستغلالها سياسيًا.
من هم الأطراف المتصارعون؟
- الدولة المصرية: تسعى لتأكيد سيادتها القانونية على أراضٍ داخل حدودها وفق أحكام قضائية وإدراية؛ تبرّر ذلك بضرورات حماية المواقع الأثرية والإدارة العامة.
- الكنيسة الأرثوذكسية (اليونانية/القدس): تعتبر الدير جزءًا من تراث روحاني تابع للكنيسة الأرثوذكسية وتتهم بعض الأطراف بمحاولة تقويض استقلاله التقليدي.
- رهبان الدير الداخليين: انقسموا بين من يرفض أي تغيير قضائي أو إداري ومن قد يدعم تسويات داخلية، ما أدى إلى نزاع قيادي داخلي.
الأسباب الهيكلية للأزمة
عدّة عوامل مجتمعة أدت لتفجّر الأزمة:
- أحكام قضائية سابقة حول ملكية الأراضي
- رغبة الدولة في إدارة موارد سيناء وتنمية السياحة
- غياب إطار قانوني واضح يحفظ استقلالية المؤسسات الدينية
- التوترات الدائمة بين المحافظة على التراث وإدارة التطور الاقتصادي.
الحقوقيون يحذرون من أن حلًّا إدارياً دون مشاركة الكنيسة قد يخلق سوابق خطيرة تمس حريات العبادة والملكية التاريخية.
خاتمة واستنتاج.. ماذا بعد؟
القضية لم تعد مسألة ملكية فحسب؛ بل تحوّلت إلى اختبار لمسارات الدولة في التعامل مع مؤسسات مدنية ودينية تاريخية، وللدبلوماسية المصرية مع حليفتها اليونان.
إذا ما استمرّ التصلّب القضائي أو التصاعد الداخلي داخل الدير، فقد نشهد مزيدًا من العزلة الدينية والدبلوماسية، وتآكلًا في ثقة الأقلّيات، وهو ما يضع علامة استفهام كبيرة على «خطاب الاستقرار» الذي تروّج له السلطة.
تظل المطالبة الأكثر واقعية حاليًا: حوار دولي محلي شفاف يضم ممثلي الرهبنة والكنائس الوطنية والدولة والأطراف الدولية لحماية تراث إنساني لا يخص طرفًا واحدًا.