في الوقت الذي تعاني فيه الثقافة المصرية من تراجع غير مسبوق، أطلقت وزارة الثقافة سلسلة جديدة بعنوان "جيل واعي في وطن أقوي"، والتي وصفتها بأنها تهدف إلى نشر الوعي الوطني.
إلا أن السلسلة تحولت، وفق آراء نقاد ومثقفين، إلى منصة للترويج للأكاذيب والهري الإعلامي، بعيدًا عن تقديم محتوى ثقافي حقيقي يرتقي بالوعي العام.
هذه الخطوة تأتي في ظل انهيار المنظومة الثقافية التي كانت يومًا مصدرًا لإشعاع فكري في الوطن العربي، لتتحول اليوم إلى مجرد أداة دعاية رخيصة في خدمة السلطة.
السلسلة بين التمجيد والتزييف
تصف وزارة الثقافة السلسلة بأنها "رد على الشائعات وتأكيد لقوة الدولة"، لكنها، وفق الناقد الأدبي د. جمال الغيطاني ، تكرس لسياسة تزييف الوعي وإعادة إنتاج الخطاب الرسمي بعبارات إنشائية لا علاقة لها بالثقافة الحقيقية.
ويقول الغيطاني: "الثقافة التي تنحاز للسلطة على حساب الحقيقة تفقد قيمتها، وما يحدث الآن هو صناعة بروباغندا وليست صناعة ثقافة". ويشير إلى أن السلسلة تفتقر إلى أي مضمون معرفي، إذ تتناول القضايا بمنطق شعاراتي لا يضيف جديدًا للمتلقي.
تراجع دور المؤسسات الثقافية
المفارقة الكبرى أن هذه السلسلة تأتي في وقت تتآكل فيه مؤسسات الثقافة المصرية، سواء قصور الثقافة التي تحولت إلى مبانٍ مهجورة، أو المهرجانات التي صارت واجهات شكلية تخدم مصالح ضيقة.
الباحث صلاح عيسى يرى أن هذه الممارسات تعكس انهيار الثقافة المصرية منذ التسعينيات، حيث انخفضت معدلات القراءة، وتراجع إنتاج الكتب الجادة، وانهارت صناعة المسرح والسينما المستقلة.
ويضيف: "بدلاً من إعادة إحياء الثقافة، تُصر الوزارة على إنتاج مواد فارغة المحتوى لإرضاء السلطة لا الجمهور".
ثقافة الهري بدلاً من الوعي
السلسلة الجديدة اعتمدت على خطاب شعبي مليء بالمصطلحات المبتذلة مثل "الهري"، ما يكشف، بحسب الكاتبة أمينة رشيد، عن سقوط مستوى الخطاب الثقافي الرسمي إلى أدنى درجاته.
وتضيف: "حين تتحول الوزارة إلى منصة للسخرية من النقد وتسفيه الرأي الآخر، فإنها تفقد هويتها كحاضنة للثقافة". وتشير إلى أن الدولة لا تدعم الإبداع الحر أو المشاريع الفكرية الجادة، بل تركز على محتوى يكرس صورة القوة المطلقة، في حين أن الواقع يثبت عكس ذلك.
ثقافة مصر بين الأمس واليوم
مصر التي كانت يومًا منارة الفكر والإبداع، والتي أنجبت حسن البنا وسيد قطب وطه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس، تقف اليوم أمام مفترق طرق.
المسرح الذي كان يعكس هموم المجتمع أصبح خاليًا إلا من العروض التجارية السطحية، والكتاب الذي كان يناقش القضايا الكبرى صار حبيس رفوف فارغة.
الباحث جابر عصفور – قبل رحيله – حذر من هذا الانحدار، مؤكدًا أن "الثقافة حين تتحول إلى أداة للتزييف، تقتل أي أمل في نهضة حقيقية".
ثقافة بلا روح
إطلاق سلسلة مثل "جيل واعي في وطن أقوي" ليس سوى دليل جديد على موت المشروع الثقافي المصري، بعدما كان حائط الصد الأول أمام الجهل والتطرف.
اليوم، تُستخدم الثقافة كوسيلة لتجميل القبح وتبرير الفشل، بينما تنهار القراءة والمسرح والسينما، ويُهاجر المبدعون بحثًا عن حرية التعبير.
فهل تدرك الدولة أن القوة الحقيقية لا تُبنى بالشعارات والهري، بل ببناء وعي نقدي حر، يعيد للثقافة المصرية مكانتها التي فقدتها منذ عقود؟