تشهد شبكات الكهرباء في مصر أزمة متفاقمة تتمثل في ارتفاع نسبة الفقد، التي تجاوزت 18% من إجمالي الطاقة المنتجة، وهو ما يشمل الفقد الفني وسرقات التيار. هذه النسبة تعني أن ما يقارب خمس الكهرباء المولدة في البلاديضيع دون مقابل، وهو ما يترجم إلى خسائر مالية ضخمة تتجاوز عشرات المليارات من الجنيهات
سنويًا.
ورغم خطورة هذه الظاهرة، يبدو أن الحكومة حتى الآن تكتفي بالإجراءات التقليدية التي لم تحقق نتائج ملموسة.
محافظات تتصدر المشهد
تتركز أعلى نسب سرقات الكهرباء في محافظات القاهرة والجيزة وأجزاء من القليوبية، حيث تسهم هذه المناطق وحدها بنحو ثلث حجم السرقات على مستوى الجمهورية.
وتصل النسبة في بعض الشركات، مثل شركة جنوب القاهرة، إلى مستويات كارثية تتجاوز 30% من حجم الفقد التجاري. هذه الأرقام تكشف فشلًا واضحًا في الرقابة والمتابعة، خاصة في ظل تكرار الوعود الحكومية بتقليل هذه الظاهرة دون أن يلمس المواطن أي تحسن.
لماذا يسرق المواطن الكهرباء؟
الحكومة تقول: "المواطن يسرق".لكن لا أحد يسأل: لماذا؟
هل المواطن الذي لا يجد قوت يومه ولا يستطيع شراء أنبوبة الغاز سيجد المال لفاتورة كهرباء تضاعفت عدة مرات؟ هل من العدل أن يعيش المصري في ظلام لأنه لا يملك ثمن النور؟
في كل حي شعبي هناك قصص عن أسر اضطرت إلى مد سلك من عمود الإنارة، أو تركيب وصلات غير قانونية، ليس لأنها مجرمة، بل لأنها تبحث عن الضوء والدفء والحياة.
الحكومة تتجاهل أن هذه الأفعال ليست بدافع الرفاهية، بل بدافع البقاء، في وقت لم يعد فيه الفقر خيارًا بل واقعًا يعيشه ملايين المصريين.
الأسباب الحقيقية وراء الظاهرة
الحكومة تلقي باللوم دائمًا على المواطنين، لكن السؤال الأهم: لماذا يضطر المواطن أصلاً إلى سرقة الكهرباء؟ الإجابة واضحة؛ الغلاء الفاحش في الأسعار، خاصة فواتير الكهرباء التي أصبحت عبئًا لا يمكن تحمله بالنسبة للأسر
الفقيرة ومتوسطة الدخل.
المواطن الذي يعاني من تضاعف أسعار السلع والخدمات، وجد نفسه عاجزًا عن دفع فواتير شهرية قد تتجاوز دخله، في حين تكتفي الدولة بفرض زيادات متتالية دون أي مراعاة للظروف الاقتصادية القاسية.
إضافة إلى ذلك، يعاني المواطنون من خللفي أنظمة المحاسبة، وارتفاع مبالغ الفواتير بشكل غير منطقي، خاصة مع العدادات مسبقة
الدفع التي يشتكي كثيرون من استهلاكها السريع للأرصدة. كل ذلك يدفع البعض إلى البحث عن حلول غير قانونية للبقاء على قيد الحياة، في وقت تغيب فيه سياسات حقيقية لدعم الفقراء
أو حتى مراقبة شركات الكهرباء التي تحولت إلى عبء على المواطن بدلًا من خدمته.
عجز حكومي وإجراءات شكلية
ورغم كل هذه الأرقام الكارثية، لا تزالالحكومة تتعامل مع الأزمة بعقلية الجباية، لا بإيجاد حلول حقيقية. تتحدث وزارة الكهرباء
عن حملات ضبط وغرامات باهظة تصل إلى مليون جنيه، وعن تركيب عدادات ذكية، لكن الواقع على الأرض يقول إن هذه الحلول لم تقلل من حجم السرقات أو الفقد، بل زادت من حالة الاحتقان الشعبي.
فالحكومة التي تطالب المواطنين بالالتزام لا تقدم في المقابل عدالة في الأسعار،ولا شفافية في الفواتير، ولا حتى تحسينًا ملموسًا في الخدمة التي تتعرض لانقطاعات متكررة
رغم كل هذه الرسوم الباهظة.
خسائر بالمليارات يدفع ثمنها المواطن
خسائر الكهرباء في مصر تجاوزت 50 مليارجنيه سنويًا، تتحملها الدولة في النهاية، أي يتحملها المواطن من جيبه عبر الضرائب والزيادات الجديدة في الأسعار.
وبينما يبرر المسؤولون هذه الأوضاع بارتفاع معدلات السرقة، يغفلون عمدًا أن السبب الحقيقي هو السياسات الاقتصادية الخاطئة التي دفعت الناس إلى حافة الفقر،
وتركتهم أمام خيارين: إما العيش في الظلام أو التحايل على الشبكات لتوفير الضوء لأسرهم.
وفي النهاية فإن الأزمة الحالية ليست مجرد مشكلة فنية، بل هي انعكاس لفشل السياسات الحكومية في تحقيق التوازن بين تكلفة الخدمة وقدرة المواطن على السداد.
بدلًا من التفكير في حلول واقعية مثل إعادة هيكلة الدعم بشكل عادل، وتطوير أنظمة المراقبة دون إرهاق المواطن، اختارت الحكومة الطريق الأسهل:تحميل الناس المسؤولية وإطلاق التهديدات بالغرامات والسجن.
هذه السياسات القمعية لا تعالج المشكلة، بل تدفعها للتفاقم، وتؤكد أن الدولة عاجزة عن إدارة ملف الكهرباء بشكليحقق العدالة الاجتماعية ويحافظ على مواردها.