في الخامس من أغسطس 2025، سُجلت واحدة من أكثر الكوارث الإنسانية إيلامًا في قطاع غزة، حين انقلبت شاحنة محملة بالمساعدات الغذائية على حشد من المدنيين في منطقة النصيرات وسط القطاع، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن عشرين شابًا وإصابة العشرات.

هذا الحادث، الذي هزّ الضمير الإنساني، لم يكن نتيجة ظرف عرضي، بل انعكاسًا صارخًا لشحّ الغذاء، وانهيار المنظومة الإغاثية، وانعدام الأمان في طرقات قطاع يعيش في ظلال الحصار والقصف.

https://www.youtube.com/watch?v=7G40b5j8nPU&t=1s

مع تواصل الحرب منذ السابع من أكتوبر 2023، وتفاقم الحصار المفروض على غزة، تحولت المساعدات الغذائية إلى شريان حياة يتدافع عليه الجوعى.

 

وقد رصد شهود عيان تدافعًا هائلًا نحو الشاحنة التي انقلبت بفعل ضغط الحشود وفوضى التوزيع، إذ لم يكن هناك نظام واضح لتسليم المساعدات، ولا حماية مدنية لضمان سلامة المواطنين.

كثير من هؤلاء الشبان الذين فقدوا أرواحهم، كانوا ينتظرون منذ الفجر من دون طعام، على أمل أن يحصلوا على كيس دقيق أو بعض المعلبات.

إحدى الشهادات المؤثرة جاءت من ناجٍ في العشرينات من عمره، قال في حديثه لصحيفة واشنطن بوست إنه كان يقف على مسافة مترين فقط من الشاحنة لحظة انقلابها، مضيفًا أن الناس "هرعوا وهم يصرخون، وبعضهم حاول التسلق على المركبة للوصول إلى الأكياس المربوطة".

وأضاف بصوت مرتجف: "كان الناس يموتون من الجوع. كان ذلك أشبه بحصار القرون الوسطى. عندما رأينا الشاحنة، تراجع الخوف، ولم نعد نفكر في الموت".

الصدمة لم تكن فقط في عدد الضحايا، بل في طبيعة الحادث نفسه الذي كشف بوضوح عن مدى تفاقم الجوع والعجز في تأمين وصول آمن ومنظّم للمساعدات.

وزارة الصحة في غزة أعلنت أن أغلب الضحايا من الشبان في مقتبل العمر، وأن عددًا منهم تُوفي على الفور سحقًا تحت حمولة الشاحنة، بينما تُوفي آخرون لاحقًا متأثرين بجراحهم بسبب تأخر وصول الإسعاف.

تزامن الحادث مع تصاعد التحذيرات من مجاعة وشيكة في القطاع، حيث يعاني قرابة مليون ونصف إنسان من انعدام الأمن الغذائي، وفق تقارير صادرة عن برنامج الأغذية العالمي.

مصادر أممية قالت إن 70% من قوافل المساعدات لا تصل إلى المحتاجين بسبب العراقيل الإسرائيلية، سواء عبر تأخيرها في المعابر، أو بإجبارها على السير في طرقات خطرة تم قصفها أو تدمير بنيتها مسبقًا.

وفي الحادث الأخير، أشارت مصادر إلى أن السائق اضطر إلى تغيير المسار المعتاد للشاحنة بعد تلقيه تهديدات من نقطة تفتيش عسكرية، مما جعله يسلك طريقًا رمليًا ضيقًا قرب سوق النصيرات، وهو ما أدى إلى فقدانه السيطرة وانقلاب المركبة.

ردود الفعل على الحادث كانت غاضبة على المستوى المحلي والدولي.

وزارة الإعلام الفلسطينية في غزة اتهمت الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر بالتسبب في الحادث من خلال استخدام "سياسة التجويع كسلاح".

ووصفت ما حدث بأنه "جريمة تضاف إلى سجل طويل من الجرائم ضد المدنيين العزل".

من جهتها، أكدت حركة حماس أن ما حصل "ليس حادثًا عفويًا بل نتيجة مباشرة لحصار ممنهج يهدف إلى إذلال وتجويع الشعب الفلسطيني".

الجزيرة، الغارديان، ووسائل إعلام أخرى وثّقت الحادث من خلال مقاطع فيديو وصور مؤلمة تظهر شبانًا ممددين تحت الشاحنة، وآخرين يحاولون إخراج جثثهم بأيديهم وسط صرخات الأمهات وصيحات الاستغاثة.

هذه المشاهد أعادت للأذهان حوادث سابقة وقعت منذ بدء الحرب، منها حادثة “مجزرة الدقيق” التي قُتل فيها أكثر من 110 أشخاص أثناء تدافعهم للحصول على مساعدات بالقرب من شارع الرشيد غرب غزة في فبراير 2024.

المأساة لا تقتصر على الخبز، بل تشمل أيضًا المياه، والأدوية، وحليب الأطفال، والوقود.

كل عنصر من هذه الضروريات بات جزءًا من معركة يومية يخوضها المدنيون للبقاء على قيد الحياة.

ففي ظل القصف المستمر، وانهيار البنية التحتية، لم تعد هناك قدرة للمنظمات المحلية على ضمان توزيع آمن وعادل للمساعدات.

ويشير مراقبون إلى أن دخول المساعدات بشكل عشوائي، دون تنسيق أو إشراف من جهات محايدة، هو ما يجعل المشهد أكثر خطورة.

الاحتلال من جانبه لم يصدر أي تعليق رسمي مباشر بشأن الحادث، واكتفى متحدث باسمه بالقول إن "عمليات الإغاثة ليست مسؤولية إسرائيل المباشرة، بل تتم بالتنسيق مع منظمات دولية".

هذا الرد زاد من الغضب الشعبي، حيث اعتبرته مؤسسات حقوقية نوعًا من التهرب من المسؤولية، خاصة وأن إسرائيل تتحكم في كافة المعابر والطرق المؤدية إلى القطاع.

الأمم المتحدة بدورها عبّرت عن "قلقها العميق" إزاء الحادث، مطالبة بفتح تحقيق شفاف ومستقل في الأسباب التي أدت إلى وفاة هذا العدد الكبير من المدنيين، ومعاينة مسؤولية الجيش الإسرائيلي في فرض مسارات محددة للشاحنات.

في المقابل، دعا نشطاء حقوقيون إلى تشكيل لجنة تقصّي حقائق دولية، وفرض ضغوط أكبر على إسرائيل للسماح بمرور كميات كافية من الغذاء دون شروط سياسية.

في الخلفية، تستمر المجاعة في خنق غزة، وتتحوّل كل شاحنة مساعدات إلى فرصة للبقاء أو مأساة جديدة.

المدنيون في القطاع، الذين باتوا بلا منازل، ولا مياه صالحة للشرب، ولا كهرباء، يركضون نحو الخطر كل يوم على أمل التقاط ما يسد رمق أطفالهم.

وبينما العالم يتفرج، تُسجل غزة مرة بعد مرة موتًا جماعيًا ليس بالصواريخ وحدها، بل بالطحين الذي تحوّل إلى مقبرة جماعية.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: كم شاحنة أخرى يجب أن تنقلب؟ وكم شابًا آخر يجب أن يُقتل تحت عجلات الجوع، قبل أن يتحرّك المجتمع الدولي لوقف هذه المأساة المتواصلة؟