في قلب الجبهة المعنوية، تخرج الأرقام الإسرائيلية عن صمتها لتكشف حجم الانهيار الداخلي في جيش الاحتلال الإسرائيلي بعد قرابة عام من الحرب على قطاع غزة.
ما بين مجازر مروعة ارتُكبت بحق المدنيين، وخوف عميق من بأس المقاومة، يعيش عشرات الآلاف من الجنود الإسرائيليين أزمة نفسية غير مسبوقة، عنوانها: العجز، الذنب، والانكسار.
وزارة الدفاع الإسرائيلية، ولأول مرة منذ بدء العدوان على غزة في 7 أكتوبر 2023، اعترفت رسميًا بأن نحو 80,000 جندي يتلقون العلاج من إصابات نفسية وجسدية، من بينهم 26,000 يعانون من اضطرابات نفسية، وثلثهم تم تشخيصه باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
وتُشير بيانات أخرى إلى تزايد حالات الانتحار في صفوف الجنود، في ظاهرة باتت تهدد تماسك المؤسسة العسكرية ذاتها.
ولكن خلف هذه الأرقام، تختبئ قصة أكبر: انهيار في العقيدة القتالية، وفشل في تحقيق الأهداف، وانتصار متجدد للمقاومة الفلسطينية التي لم تنكسر رغم كل شيء.
المقاومة تقاتل... والعدو ينهار
رغم القصف الإسرائيلي المكثف، والدمار الهائل، والمجازر الجماعية التي طالت آلاف الأطفال والنساء في غزة، لم تتمكن إسرائيل من كسر المقاومة أو حتى زعزعة بنيتها الأساسية.
استمرت كتائب القسام وسرايا القدس وفصائل أخرى في تنفيذ عمليات نوعية، منها ما هو خلف خطوط العدو، ومنها ما أوقع إصابات مباشرة في صفوف وحدات النخبة الإسرائيلية.
وفي مقابل كل محاولة توغل بري، كانت كمائن المقاومة بانتظارهم، بألغام أرضية واشتباكات مباشرة وقنص متقن، جعلت الجنود يشعرون أنهم يطاردون سرابًا.
قال أحد الجنود المصابين في مقابلة لقناة "كان" العبرية: "نحن نقاتل أشباحًا... لا نراهم، لكننا ننزف كل يوم."
وهذا الواقع، إلى جانب فشل الاستخبارات في تحديد أماكن الأسرى، أو القضاء على البنية التحتية للمقاومة، خلق شعورًا عامًا بين الجنود بأنهم "يُلقَون إلى الموت دون جدوى"، ما أدى إلى تصدع في الروح المعنوية، وساهم في تفاقم الأزمة النفسية داخل وحدات الاحتلال.
مجازر بلا نصر: الذنب يفتك بالجنود
منذ الساعات الأولى للعدوان، ارتكبت قوات الاحتلال مجازر جماعية في مستشفيات ومدارس وملاجئ.
قصف منازل فوق رؤوس ساكنيها، وحرمان المدنيين من الماء والغذاء، وفرض حصار خانق وسط دمار شامل.
لكن تلك المجازر لم تجلب النصر، بل أثقلت الجنود بذكريات مرعبة. فصور الجثث، وصراخ الأطفال، والمواقف التي شهدوها أو شاركوا فيها، أصبحت تلاحقهم في يقظتهم ومنامهم.
يقول جندي سابق في لواء غولاني، رفض الكشف عن اسمه لصحيفة "يديعوت أحرونوت": "أطلقت النار على بيت لم أكن أعلم أن فيه عائلة... قالوا لنا إن فيه عناصر من حماس. بعد القصف اكتشفنا أطفالاً بين الركام. لم أنم منذ تلك الليلة."
هذا النوع من الاعترافات يعكس حالة الانفصام النفسي والروحي بين ما يُطلب من الجنود أن ينفذوه، وما يستطيع ضميرهم تحمّله.
وبمرور الوقت، تحولت الصدمة إلى أعراض عقلية واضحة: نوبات هلع، عزلة، اكتئاب، وميل إلى العنف أو الانتحار.
انتحارات الجيش: مؤشّر على الانكسار
منذ مطلع عام 2025، أبلغت المؤسسة العسكرية عن 16 حالة انتحار مؤكدة في صفوف الجنود العائدين من جبهات القتال، معظمهم من المشاركين في الحرب على غزة.
وفي تحقيق لهيئة البث الإسرائيلية، قال مسؤول في قسم الصحة النفسية:
"العديد من الجنود لا يتحمّلون ما رأوه أو فعلوه. نحن في أزمة وعلينا مواجهة ذلك بصدق."
المثير أن هذه الحالات ليست معزولة.
بل بدأ قدامى المحاربين الإسرائيليين في التظاهر أمام وزارة الدفاع مطالبين بإنقاذ زملائهم من الانتحار، ومحاسبة القيادات التي زجّت بهم في حرب خاسرة أخلاقيًا وعسكريًا.
الانتحار ليس فعل ضعف، بل دليل على إفلاس المشروع الصهيوني من الداخل: جندي مدجج بالسلاح، مدعوم بأحدث التكنولوجيا، ينتحر لأنه لم يستطع قتل روح المقاومة في غزة، أو لأنه خسر إنسانيته حين شارك في قتل الأبرياء.
فشل استخباراتي وميداني مستمر
رغم إعلان إسرائيل عن تصفية قيادات ميدانية في غزة، لم ينجح جيش الاحتلال في الوصول إلى أي من القيادات العليا للمقاومة.
لا محمد الضيف، ولا يحيى السنوار، ولا حتى الجبهة الداخلية للمقاومة تم المساس بها. وفي المقابل، ما تزال الصواريخ تُطلق بين الفينة والأخرى، والعبوات الناسفة تُفجّر في محاور متقدمة داخل القطاع.
كما فشلت إسرائيل في تحرير أسرى "7 أكتوبر"، وهو ملفّ يمثل إحراجًا وطنيًا لها منذ أكثر من 10 أشهر.
وعلى الجانب الآخر، تحافظ المقاومة على تماسكها رغم الحصار والقصف، بل وتفاوض من موقع قوة.
الصدمة تتسرب إلى المجتمع الإسرائيلي
لم تبقَ هذه الأزمات داخل المؤسسة العسكرية فقط، بل بدأت تنتشر في المجتمع الإسرائيلي.
عشرات العائلات التي فقدت أبناءها في الحرب بدأت تُحمّل الحكومة والجيش المسؤولية، وتشارك في مظاهرات تطالب بوقف الحرب، وإيجاد تسوية تحفظ "ما تبقى من كرامة".
صحيفة "هآرتس" وصفت الوضع بـ"أكبر أزمة نفسية تواجه الجيش منذ تأسيسه"، فيما حذرت مراكز أبحاث من أن "جيلًا كاملاً من الجنود قد ضاع في متاهة غزة".
المقاومة: نصر بالصبر والثبات
في ظل كل هذا الانهيار، تقف غزة شامخة، رغم الجراح. عشرات آلاف الشهداء لم يُضعفوا عزيمة شعبها، بل زادوه قوة.
القادة في غزة يديرون المعركة بنَفَس طويل، ويبرعون في المناورة السياسية والميدانية، رافضين أي تسوية لا تضمن كرامة الشعب الفلسطيني وحقوقه.
رسائل الفيديو المسربة لأسرى الاحتلال، ومشاهد عمليات المقاومة الدقيقة، أعادت الثقة للشارع العربي والعالمي بقدرة المقاومة على هزّ أقوى الجيوش المدججة.
الخلاصة: إسرائيل تخسر الحرب النفسية... والمقاومة تنتصر
ما كشفته وزارة الدفاع الإسرائيلية من بيانات صادمة عن حجم الإصابات النفسية والانتحار في صفوف جنودها، لم يكن سوى دليل جديد على أن المعركة لم تُحسم بالقنابل، بل بالعقيدة.
المقاومة الفلسطينية، رغم الفارق الهائل في العتاد، صمدت، واجتهدت، ونجحت في تفكيك منظومة العدو النفسية من الداخل.
إسرائيل قد تكون دمرت الحجر، لكنها فشلت في كسر الإرادة. وما دام الجنود ينتحرون بعد المعركة، فالهزيمة حُسمت من داخلهم.
في زمن يُقاس فيه النصر ليس فقط بالسيطرة على الأرض، بل بقدرة الإنسان على البقاء ثابتًا في وجه الطغيان، فإن غزة — بدماء أبنائها وصبر مقاوميها — قد سطرت صفحة جديدة من الانتصار... انتصار الإنسان على آلة القتل.