في خطوة فاجأت الأوساط الاقتصادية والصناعية، قررت الحكومة المصرية تأجيل تطبيق الزيادة المقررة في أسعار الغاز الطبيعي الموجه للقطاع الصناعي، والتي كان من المفترض أن تدخل حيز التنفيذ في الأول من أغسطس الجاري.
هذا القرار، الذي جاء في وقت يشهد فيه الاقتصاد المصري ضغوطًا هائلة من ارتفاع التضخم، وتراجع الإنتاج، وتدهور القوة الشرائية للمواطن، فتح الباب أمام تساؤلات مشروعة: لماذا تم التأجيل؟ هل السعر الحالي للغاز يمثل دعماً أم عبئاً؟ وماذا سيحدث في حال تطبيق الزيادة لاحقًا؟

 

خلفية القرار: لماذا تم التأجيل؟

أسباب تأجيل رفع الأسعار متعددة، ويبدو أن الحكومة كانت مضطرة أكثر منها راغبة في الإبقاء على الأسعار دون زيادة مؤقتًا. من أبرز هذه الأسباب:

  1. ضغوط المصانع والمستثمرين
    قبل أيام من موعد الزيادة، أطلقت عدة غرف صناعية تحذيرات صريحة من أن أي زيادة جديدة في أسعار الغاز ستؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج بشكل غير مسبوق، ما سيُجبر المصانع على رفع الأسعار أو تقليل الإنتاج أو حتى الإغلاق.
     
  2. الركود التضخمي
    الاقتصاد المصري يعاني من ما يُعرف بالـ "ركود التضخمي"، أي ارتفاع الأسعار مع تباطؤ النمو وضعف الطلب.
    أي زيادة جديدة في مدخلات الإنتاج - مثل الغاز - ستؤدي إلى موجة تضخمية جديدة لا يتحملها المواطن أو السوق.
     
  3. الضغوط السياسية والاجتماعية
    مع تزايد الغضب الشعبي من الغلاء، وأزمات الغذاء والسكن، ربما رأت الحكومة أن تطبيق الزيادة في هذا التوقيت سيكون له ثمن سياسي واجتماعي باهظ، خاصة مع قرب الدخول في موسم دراسي جديد وعودة المدارس وما يصاحبها من أعباء مالية.

 

ما هو السعر الحالي؟ وهل هو عادل؟

حاليًا، يُباع الغاز الطبيعي للقطاع الصناعي بأسعار متفاوتة بحسب نوع الصناعة:

  • الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة (مثل الأسمنت، الحديد والصلب): 5.75 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية.
  • الصناعات المتوسطة والخفيفة: تتراوح بين 4.5 إلى 5.5 دولار لكل مليون وحدة.

من وجهة نظر الحكومة، هذه الأسعار تعتبر مدعومة مقارنة بالسعر العالمي الذي يتجاوز أحيانًا 8 إلى 12 دولارًا، خاصة في ظل أزمة الطاقة العالمية.

لكن من وجهة نظر رجال الصناعة، فإن:

  • السعر الحالي غير مناسب في ظل تدني القوة الشرائية للمواطن المصري.
  • تكاليف التشغيل والضرائب والتضخم تجعل السعر المدعوم "اسميًا" غير واقعي فعليًا.
  • مقارنة غير عادلة مع دول منافسة تدعم الغاز للمصانع بشكل أكبر لتحفيز التصدير.

 

كيف يؤثر الغاز على القطاع الصناعي؟

الغاز الطبيعي ليس فقط مصدر طاقة، بل هو مكون أساسي في العديد من الصناعات مثل:

  • الأسمدة والبتروكيماويات: يمثل الغاز المادة الخام الأساسية.
  • الحديد والأسمنت: يدخل كمصدر للطاقة الحرارية.
  • صناعات الزجاج والسيراميك: تحتاج درجات حرارة مرتفعة تعتمد على الغاز.

أي زيادة في سعر الغاز تؤدي إلى:

  • رفع تكلفة الإنتاج.
  • ضعف التنافسية التصديرية.
  • زيادة أسعار المنتجات النهائية في السوق المحلي.

 

هل هناك بدائل للمصانع؟

واقعياً، لا توجد بدائل حقيقية للغاز بالنسبة للمصانع حاليًا:

  • الكهرباء مرتفعة التكلفة.
  • استخدام الفحم محظور أو محدود بيئيًا.
  • مصادر الطاقة المتجددة ليست جاهزة بعد للاستخدام الصناعي الكثيف.

وبالتالي، فإن أي تغيير في سعر الغاز الطبيعي ينعكس فورًا على تكاليف الإنتاج والأسعار النهائية للمستهلك.

 

تداعيات الزيادة لو طُبّقت

في حال قررت الحكومة رفع أسعار الغاز خلال الأشهر المقبلة، فإن التبعات ستكون كارثية:

  1. إغلاق المزيد من المصانع
    المصانع المتعثرة حاليًا لن تتحمل المزيد، خاصة المصانع الصغيرة والمتوسطة التي تعمل بهوامش ربح ضيقة.
     
  2. زيادة البطالة
    أي توقف أو تخفيض في الإنتاج سيؤدي حتمًا إلى تسريح عمالة، ما يزيد الضغط على سوق العمل.
     
  3. ارتفاع أسعار المنتجات
    من الحديد إلى السيراميك إلى الأسمدة، سترتفع الأسعار، مما يُفاقم معاناة المواطن في السوق.
     
  4. ضعف القدرة التنافسية للتصدير
    مع ارتفاع تكلفة الإنتاج، ستُصبح المنتجات المصرية أقل قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية مقارنة بدول مثل تركيا والهند.

 

ماذا يقول الخبراء؟

د. وليد جمال الدين – رئيس المجلس التصديري لمواد البناء: "رفع أسعار الغاز سيكون بمثابة رصاصة الرحمة على صناعات استراتيجية، نحن بحاجة لدعم، لا لمزيد من الأعباء."

د. فخري الفقي – الخبير الاقتصادي: "المرحلة الحالية لا تحتمل صدمات جديدة، على الحكومة أن توازن بين تحصيل الإيرادات والحفاظ على عجلة الإنتاج."

الصناعي أحمد حلمي: "لسنا ضد رفع الدعم، ولكن يجب أن يكون تدريجيًا، ومعه حوافز حقيقية ودعم للمنتج المحلي."

 

هل الدولة مضطرة للزيادة؟
مع عجز الموازنة وتراجع عائدات الدولة من السياحة وقناة السويس، فإن الحكومة تسعى لتحقيق موارد إضافية، من بينها تقليص دعم الطاقة.

لكن على الجانب الآخر، فإن استمرار دعم الإنتاج الصناعي يحقق للدولة فوائد غير مباشرة:

  • تشغيل العمالة.
  • زيادة الضرائب من الأرباح.
  • تحفيز الصادرات وتقليل الواردات.

وبالتالي فإن القرار بحاجة إلى مراجعة دقيقة لتوازنات الكلفة والعائد.

 

ماذا يجب أن يحدث؟

  • تثبيت أسعار الغاز للمصانع لمدة لا تقل عن عام حتى تستقر السوق.
  • إعادة تسعير الغاز بناء على طبيعة الصناعة وليس بأسعار موحدة.
  • تقديم دعم عيني للمصانع الصغيرة والمتوسطة في صورة خصومات أو إعفاءات ضريبية.
  • استغلال الفائض من الغاز في التوسع الصناعي المحلي بدلاً من تصديره فقط.
  • تحسين كفاءة المصانع في استهلاك الطاقة عبر برامج تحفيزية.

وفي النهاية فإن تأجيل الحكومة لرفع أسعار الغاز ليس حلاً جذريًا، لكنه بمثابة تخدير ومسكنات قصيرة الأجل قبل اتخاذ قرار صعب.
لكن أي زيادة مستقبلية قد تتحول إلى كارثة اقتصادية حقيقية إذا لم تتم في سياق شامل يراعي حالة الاقتصاد المتعثر، والقدرة الشرائية المنهارة، وواقع الصناعة المحلي.

على الحكومة أن تدرك أن الضغط على الصناعة يعادل الضغط على المواطن نفسه. فالمصنع الذي يُثقل بالأعباء سيتوقف، والمنتج الذي يُكلّف أكثر سيرتفع سعره، ومن سيدفع الفاتورة في النهاية؟ المواطن البسيط الذي أصبح عالقًا بين دولة تُصدّر أزماتها، وسوق جشع لا يرحم.