في خطوة أثارت موجة من الغضب والقلق داخل أوساط الشباب والمبدعين ورواد الأعمال، أعلنت وزارة المالية المصرية أن حصيلة ضرائب التجارة الإلكترونية ارتفعت بشكل جنوني من مليار جنيه في 2023 إلى 17.3 مليار جنيه في 2024.

هذا الرقم الصادم لا يمثل مجرد نجاح للحكومة في "ضبط السوق الإلكتروني"، كما تدّعي، بل يعكس أيضًا منظورًا ضيقًا قاصرًا عن الاقتصاد الرقمي الحديث، حيث يتم التعامل مع الإبداع والمحتوى والتجارة الرقمية كـ"بقَر حلوب" لا كمجالات واعدة يمكن أن تخلق مستقبلًا جديدًا لمصر.

فما الذي يحدث؟ ولماذا يشعر الكثير من الشباب أن هذه الضرائب لا تشجع بل تقتل فرصهم؟ وهل نحن أمام سياسات حكومية تدفع المبدعين قسرًا إلى الهجرة؟

 

ضرائب التجارة الإلكترونية... تضاعف أم قفزة عقابية؟
بحسب البيانات الصادرة عن وزارة المالية، فقد قفزت حصيلة الضرائب المحصلة من الأنشطة التجارية الإلكترونية في مصر إلى 17.3 مليار جنيه خلال السنة المالية 2023-2024 مقارنة بمليار واحد فقط في العام السابق. هذه الزيادة لم تأتِ نتيجة توسع السوق الإلكتروني وحده، بل بسبب:

  • تكثيف الملاحقة الضريبية للحسابات والمتاجر الإلكترونية.
  • فرض ضرائب على صانعي المحتوى والمبدعين على منصات مثل يوتيوب، تيك توك، فيسبوك، إنستغرام وغيرها.
  • استحداث نظام ضريبي رقمي صارم يشمل فواتير إلكترونية، وإلزام العديد من الأنشطة الرقمية بالتسجيل في منظومة الضرائب.

لكن السؤال الأهم هو: هل هذه السياسة التشريعية تخدم الاقتصاد الرقمي أم تخنقه؟

 

التجارة الرقمية ليست جريمة

في الدول المتقدمة، تُعتبر التجارة الإلكترونية فرصة اقتصادية ذهبية، ومصدرًا لتوفير الوظائف وخلق الثروات وتسهيل حياة المواطنين. في مصر، يتم النظر إليها غالبًا كـ"وسيلة تهرب ضريبي" أو "نشاط غير شرعي"، بينما في الحقيقة:

  • الملايين من المصريين يعتمدون عليها كمصدر دخل أساسي أو ثانوي.
  • آلاف من المبدعين، سواء من خلال القنوات أو المتاجر أو المشاريع الفردية، بنوا لأنفسهم جمهورًا ومصدر رزق دون الحاجة إلى وظائف حكومية أو فرص نادرة.
  • نسبة كبيرة من هذه الأنشطة تبدأ من طلاب جامعيين أو خريجين جدد، يحاولون شق طريقهم بعيدًا عن طوابير البطالة.
    ولكن بدلاً من دعمهم، قررت الدولة أن تحاصرهم بالضرائب والرقابة والعقوبات.

 

المبدعون تحت المقصلة

منذ 2021، بدأت مصلحة الضرائب حملة استهداف صانعي المحتوى الرقمي. وتحت شعار "العدالة الضريبية"، تم:

  • مطالبة كل من يتجاوز دخله الإلكتروني 500 ألف جنيه سنويًا بالتسجيل ودفع الضرائب.
  • توجيه إنذارات قانونية للمئات من صانعي المحتوى على مواقع التواصل.
  • مطالبة شركات مثل Google وMeta بالإفصاح عن أرباح منشئي المحتوى المصريين.

المشكلة ليست في فرض ضرائب على الدخل — فذلك أمر مقبول دوليًا — ولكن في:

  • غياب إطار قانوني مرن وعادل يراعي خصوصية النشاط الرقمي.
  • فرض ضرائب باهظة بدون مقابل خدمات أو ضمانات اجتماعية.
  • الافتقار إلى فهم لطبيعة عمل المبدعين، الذين لا يحققون أرباحًا ثابتة.
  • تحميلهم أعباء محاسبية معقدة لا تتناسب مع طبيعة أنشطتهم الفردية.
  •  

المتاجر الإلكترونية الصغيرة... الضحية الأكبر

الشريحة الأكبر المتضررة من تضييق الخناق الضريبي هم أصحاب المتاجر الصغيرة عبر الإنترنت، الذين:

  • يعملون من منازلهم أو غرفهم الخاصة.
  • لا يحققون أرباحًا كبيرة، بل بالكاد يغطون التكاليف.
  • يعانون بالفعل من ارتفاع أسعار الشحن، تقلبات الجنيه، صعوبة الاستيراد، وقيود وسائل الدفع.

ومع ذلك، تم إلزامهم بتقديم فواتير إلكترونية، والاشتراك في منظومة الضرائب، وإلا يواجهون الغرامات وربما الإغلاق.

هذه الإجراءات دفعت العديد منهم إلى:

  • تجميد أنشطتهم.
  • العمل بشكل غير قانوني لتجنب الضرائب.
  • الهجرة الرقمية إلى الخارج، حيث يفتحون شركات أونلاين من خلال كيانات قانونية في الإمارات أو أمريكا.

 

هروب المواهب وهجرة الإبداع

نتيجة لهذه السياسات، لاحظنا خلال العامين الماضيين:

  • انتقال عدد كبير من المبدعين المصريين للعمل من الخارج.
  • فتح قنوات وشركات بأسماء أجنبية للهروب من الرقابة الضريبية المحلية.
  • عزوف الشباب عن الدخول في مجال صناعة المحتوى خوفًا من الملاحقة الضريبية.

النتيجة؟ نزيف في الاقتصاد الرقمي وخسارة لفرص واعدة، وتحويل مصر من بلد مصدر للإبداع إلى بلد طارد له.

 

ماذا يقول المتضررون؟

أحمد.ع – صانع محتوى: "أنا بشتغل في يوتيوب من 7 سنين... أول مرة أفكر أهاجر كانت لما جالي إنذار ضريبي بمبلغ ضخم ماكنتش فاهم هو جاي منين. الدولة بتعاملنا كأننا لصوص مش ناس بتشتغل بعرقها."

سلمى.ر – صاحبة متجر إلكتروني: "أنا ببيع على إنستغرام من 3 سنين... مفيش أي دعم أو تسهيل، بالعكس كل يوم قيود أكتر وضرايب أكتر. أنا خلاص بقفل المتجر وأدور على فرصة برة."

 

هل تضاعف الحصيلة يعكس نجاحًا أم فشلًا في الرؤية؟

الحكومة قد ترى أن تحصيل 17.3 مليار جنيه من التجارة الإلكترونية يمثل إنجازًا ماليًا، لكنه في الحقيقة يعكس:

  • فشلها في فهم الاقتصاد الرقمي.
  • عدم قدرتها على دمج الشباب في المنظومة الاقتصادية بشكل عادل.
  • تعاملها مع السوق الإلكتروني كعدو لا فرصة.

وهذا ما يؤدي إلى نتائج عكسية:

  • اقتصاد رقمي غير رسمي ينمو خارج إطار الدولة.
  • هروب الكفاءات والمبدعين.
  • تراجع الثقة في البيئة الاستثمارية الإلكترونية في مصر.

 

ما الذي يجب أن يحدث؟

إذا أرادت الحكومة فعلاً بناء اقتصاد رقمي، عليها أن:

  • تضع إطارًا ضريبيًا خاصًا بالمحتوى والتجارة الرقمية يراعي طبيعتها المختلفة.
  • توفر دعمًا فنيًا واستشاريًا لصغار المبدعين والتجار لفهم آليات الضريبة وليس تخويفهم.
  • ترفع الحد الأدنى للدخل المعفى من الضرائب للمبدعين، بما يضمن عدم إرهاق المبتدئين.
  • تُوفر مقابلًا حقيقيًا للضرائب، سواء من دعم تقني أو تأمين اجتماعي.
  • تُسهل تسجيل النشاط الرقمي ككيانات قانونية صغيرة بدلًا من تشجيعهم على التهرب أو الهجرة.

وفي النهاية فإن ما بين أرقام ضخمة تتباهى بها الحكومة، وواقع مؤلم يعيشه صناع المحتوى ورواد التجارة الرقمية، يقف الاقتصاد الرقمي المصري عند مفترق طرق، وإما أن يُنظر إليه كفرصة لا تعوض، ويتم احتضانه بتشريعات عادلة وبيئة تشجع على الإبداع والربح، أو يستمر نهج الحصار والجباية، ويفقد البلد أحد أهم محركات النمو والتوظيف في العصر الحديث، فهل تستمع الحكومة لصوت المبدعين قبل أن يُصبح الصمت هو الرد الوحيد؟