تراجع الدولار بنسبة 1.71%، والجنيه في "قائمة الأفضل عالميًا".. فأين الخبز؟ أين العلاج؟ أين الأمل؟
في خطوة احتفائية معتادة لا تتجاوز حدود الشاشات الرسمية والنشرات الاقتصادية المنفصلة عن نبض الشارع، أعلنت الحكومة أن الجنيه المصري احتل المرتبة الرابعة والعشرين ضمن أفضل 30 عملة أداءً في العالم خلال شهر يوليو 2025، بعد أن "تحسن" أمام الدولار بنسبة 1.71%.
هذا الإعلان الذي تلقفته منصات الإعلام الحكومي والموالين للنظام كـ"بشرى اقتصادية" — أثار جدلًا واسعًا، ليس فقط لأن الرقم ضئيل لا يُحدث أي أثر حقيقي في حياة الناس، ولكن لأنه يمثل استخفافًا بعقول المواطنين الذين يعيشون أسوأ ظروف معيشية منذ عقود، بغض النظر عن المؤشرات النظرية.
أرقام حكومية "في الفراغ".. والشارع لا يشعر بشيء
رغم أن الحكومة أعلنت هذا "التحسن" بافتخار، إلا أن المواطن العادي لم يشعر بأي فرق في أسعار الخبز، أو اللحوم، أو الوقود، أو حتى في إيجار شقته المتواضعة.
- هل انخفضت أسعار السلع؟
- هل عادت بعض المنتجات الأساسية المدعومة؟
- هل توقفت موجة رفع الفواتير؟
- هل تنفست الطبقة الوسطى قليلًا؟
الإجابة الحقيقية من الشارع: لا شيء تغيّر.
ما يحدث هو مجرد تحسين مؤقت في الورق ناتج في الأساس عن سياسات ضغط على الواردات وقيود مشددة على الاستيراد، وليس عن نهوض حقيقي في الاقتصاد أو الصناعة أو التصدير.
ما معنى تحسن العملة إن لم يشعر المواطن بقيمته؟
- إذا كان الجنيه قد تحسن أمام الدولار بنسبة 1.71%، فالسؤال الجوهري: أين ذهبت هذه المكاسب؟
- الجنيه ما زال فقد أكثر من 70% من قيمته خلال آخر 5 سنوات.
- لا توجد زيادة فعلية في الأجور تتناسب مع هذا التحسن "المزعوم".
- أسعار السلع لا تزال مرتفعة بشكل خانق: من اللحوم إلى الخضروات، ومن الأدوية إلى المواصلات.
- البنوك ما زالت تُقنّن سحب الدولارات.
- السوق السوداء لا تزال تنشط في الخفاء، لأن العرض في السوق الرسمي غير كافٍ.
الجنيه "يتحسن".. لكن من الذي يدفع الثمن؟
الحكومة تقول إن الجنيه استقر، لكن بأي وسيلة؟
- بوقف الاستيراد إلا للسلع الضرورية، ما أدى إلى ندرة في مستلزمات الإنتاج.
- بفرض ضرائب وجمارك مرهقة على السلع، ما رفع الأسعار على المستهلك.
- بسحب الدولار من السوق لتغذية احتياطيات البنك المركزي.
- بتعليق الدعم التدريجي، ورفع أسعار الكهرباء، والوقود، وخدمات الإنترنت والنقل.
كل ما حدث حتى يتحسن الجنيه رقميًا، تم تحميله على أكتاف المواطن البسيط، الذي لم يرَ شيئًا من "التحسن"، بل رأى فقط مزيدًا من البؤس.
تضخم يكسر ظهر الفقراء
بينما تتغنى الحكومة بترتيب الجنيه بين أفضل العملات أداءً في يوليو، لا تزال معدلات التضخم العام تتجاوز 36%، في حين أن التضخم الغذائي وحده تجاوز 65% في بعض المناطق الريفية والمناطق الشعبية.
- كيلو اللحم يتجاوز 400 جنيه في معظم المحافظات.
- لتر الزيت النباتي وصل إلى 80 جنيهًا.
- علبة اللبن للأطفال أصبحت ترفًا شهريًا.
- طبق الفول — آخر معاقل الفقير — لم ينجُ من الارتفاع.
فأين هو انعكاس تحسن الجنيه؟ تحسن على من؟ ولمن؟
من المستفيد الحقيقي من تحسن الجنيه؟
الإجابة المختصرة: البنوك، كبار المستوردين، شركات رجال الأعمال، وبعض الجهات السيادية.
هؤلاء يستفيدون من الاستقرار اللحظي للعملة، لأنه يقلل من تكلفة الاستيراد وتسديد الديون الدولارية، ويحسن من شروط التعامل مع المؤسسات الدولية.
أما المواطن العادي، الذي:
- لا يسافر.
- لا يستورد.
- لا يمتلك حسابات دولارية.
- لا يتاجر في العملة.
فإنه لا يرى من هذا التحسن سوى الاحتفاء به على لسان مذيعي القنوات الرسمية، بينما لا يجد علاجًا في المستشفى ولا لبنًا في السوق ولا مرتبًا يكفي نصف الشهر.
خدعة "التحسن النسبي".. أرقام بلا سياق
من الناحية الاقتصادية، تحسن العملة بنسبة 1.71% بعد فقدانها 70% من قيمتها خلال 5 سنوات ليس إنجازًا، بل هو أقرب إلى "تثبيت جهاز في غرفة الإنعاش".
الجنيه فقد قيمته 3 مرات في 10 سنوات:
- تعويم 2016
- تعويم 2022
- تعويم مارس 2024
في كل مرة، يتم تحرير سعر الصرف، ويرتفع الدولار، وتُسحق الطبقة الوسطى، وتُبتلع المدخرات.
ثم، حين يتحسن الدولار مؤقتًا، يُحتفى بالأمر كما لو أن المشكلة انتهت!
ترتيب الجنيه عالميًا؟ وسيلة لتجميل الفشل
الحكومة تقول إن الجنيه يحتل المركز الـ 24 من حيث الأداء. لكن:
- على أي أساس تم التقييم؟
- ما حجم التعامل العالمي بالجنيه أصلًا؟
- كم دولة تتعامل به خارج مصر؟
- ما حجم التبادل التجاري الحقيقي الذي يمثله الجنيه في إفريقيا والعالم؟
في الحقيقة، التقييم مبني فقط على نسبة التغير أمام الدولار خلال شهر واحد، ولا يعكس أداء الجنيه على المدى الطويل، ولا يعكس قوته الشرائية، ولا وزنه العالمي.
إنه مجرد رقم للتصدير الإعلامي، لا أكثر.
"الجمهورية الجديدة".. وهم على أنقاض المواطن
في الوقت الذي يحتفي فيه النظام بتحسن الجنيه، يعيش الشارع:
نقص الأدوية في المستشفيات.
- هروب الكفاءات العلمية إلى الخارج.
- زيادة غير مسبوقة في البطالة المقنعة.
- موجة انتحارات بين الشباب بسبب الفقر والضغط النفسي.
- تراجع التعليم والصحة والخدمات بشكل كارثي.
فأي "تحسن" يُبنى على كل هذا الخراب؟
الإعلام يروّج للأوهام.. والناس تفقد الثقة
اللافت في هذا المشهد أن الإعلام الرسمي والمعارض المزيّف بات يمارس وظيفة واحدة: تسويق الوهم. فبدلًا من مساءلة الحكومة عن فشلها، يعيد تكرار عناوين اقتصادية لا تمتّ للواقع بصلة.
- لا أحد يسأل: لماذا لا تنخفض الأسعار إذا تحسن الجنيه؟
- لا أحد يحقق في ارتفاع فواتير الكهرباء 4 مرات خلال عام واحد.
- لا أحد يناقش لماذا انخفضت جودة التعليم والخدمات مع ارتفاع الإنفاق العام.
- إنها جمهورية الدعاية الفارغة، لا دولة أرقام واقعية.
وفي النهاية فإن العملة الوطنية ليست مجرد أرقام على الشاشات. قيمة العملة الحقيقية هي قدرتها على حماية المواطن من الجوع، وتوفير حياة كريمة له، وضمان أمنه الاقتصادي.
تحسن الجنيه بنسبة 1.71% لا يعني شيئًا لمواطن يعيش على الكفاف، ويعمل 14 ساعة يوميًا ليشتري طعامًا أقل من الأمس، ودواءً لا يجده، وتعليمًا متهالكًا لأطفاله.
الناس لا تطالب بأن يصبح الجنيه الأول عالميًا، بل أن يكون له قيمة حقيقية تحفظ لهم ما تبقى من كرامة العيش.