في ظل حالة الفساد المستشري والانحلال الأخلاقي التي تعاني منها مصر تحت حكم قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي منذ الانقلاب العسكري في يوليو 2013، يطرح السؤال نفسه: هل تنجح مبادرة "صحح مفاهيمك" التي أطلقتها وزارة الأوقاف كجزء من "الرؤية الشاملة للسيسي بالجمهورية الجديدة" في تحقيق أهدافها؟.

هذه المبادرة التي أعلن عنها وزير الأوقاف بحكومة الانقلاب الدكتور أسامة الأزهري تهدف إلى مواجهة ظواهر سلبية عديدة مثل التنمر، الغش، الرشوة، تعصب كرة القدم، وإدمان السوشيال ميديا، عبر بناء وعي مجتمعي وتصحيح المفاهيم الدينية والسلوكيات الاجتماعية الخاطئة.

 

أهداف المبادرة

تنطلق مبادرة "صحح مفاهيمك" ضمن جهود الحكومة الرسمية لتطويق تفشي السلوكيات السلبية داخل المجتمع المصري التي تزيد من هشاشة النسيج الاجتماعي، وذلك عبر حملة توعوية تشمل كل محافظات مصر وتمتد لمدة عام كامل.

وتشمل المبادرة موضوعات عدة مثل آداب الطرق، المخدرات، الخلافات الأسرية، وإيذاء ذوي الهمم، إضافة إلى محاولة تصحيح المفاهيم المتعلقة بالجهاد في الإسلام، حيث تؤكد الوزارة أن المبادرة تهدف لتصحيح الخطاب الديني والسلوكيات المجتمعية، وتعزيز قيم الانتماء والانضباط.

 

المبادرة وظاهرة "المستريح"

من بين الظواهر التي تسعى المبادرة لمواجهتها، حسب تصريحات الأزهري، هي ظاهرة "المستريح"، وهو الاسم الذي يطلق على نصّابين يدّعون توظيف الأموال في مشاريع وهمية، ولكن بدلًا من مواجهة جذور هذه الظاهرة، مثل الفقر وانعدام فرص الاستثمار الآمن وانتشار الجهل المالي، تتعامل الحكومة معها بوصفها "سلوكًا فرديًا شاذًا".

وفق تقرير لـ«البنك الدولي» في ديسمبر 2023، فإن نحو 70% من المصريين باتوا خارج نطاق الطبقة المتوسطة، ما يجعلهم صيدًا سهلًا لأي عملية نصب باسم الربح السريع، وهي بيئة خصبة لنمو ظواهر مثل "المستريح".

 

تراجع القيم..

تحاول الحكومة عبر "صحح مفاهيمك" الترويج لفكرة أن الخلل في المجتمع هو أخلاقي وفكري فقط، وليس نتيجة الفساد السياسي والاقتصادي والأمني.

لكن الواقع يكشف أن الانحلال الأخلاقي هو نتاج طبيعي لنظام يحرم الناس من أبسط حقوقهم، ويطلق يد الأجهزة الأمنية، ويغلق المجال العام، ويشيع ثقافة الولاء مقابل النجاة.

الكاتب الاقتصادي ممدوح الولي علّق على المبادرة قائلًا: "حين يكون المواطن غارقًا في الديون، عاجزًا عن إطعام أولاده، وتُغلق أمامه فرص التعبير أو الإصلاح، فإن أي دعوة لتصحيح المفاهيم تبدو ساخرة ومهينة أكثر من كونها موجهة للتغيير".

 

واقع أليم من الفساد والانحلال الأخلاقي

لكن هذه المبادرة تواجه تحديات هائلة بسبب تفشي الفساد وتعميق الأزمات الاقتصادية، حيث يعاني المصريون من ارتفاع قياسي في معدلات التضخم التي وصلت إلى 40% في الأشهر الأخيرة، وانهيار مستوى المعيشة.

فقد ألغت الحكومة دعم المواد الأساسية والوقود، ما أدى إلى زيادة الفقر لمعدلات غير مسبوقة، ويكاد نصف سكان مصر الـ100 مليون نسمة يعيشون تحت خط الفقر أو على حافته، مع تغطية برامج التحويلات النقدية يسيرة لا تتجاوز ثلث الفقراء.

كما أن الفساد مستشري في كل مناحي الحياة، من الرشوة التي تغلغلت في مؤسسات الدولة إلى فساد في الجهاز القضائي ورقابة ضعيفة على الإنفاق العام، مما يقوض ثقة الشعب في أي مبادرة حكومية حتى لو كانت توعوية.

صرح خبراء اقتصاديون وسياسيون بأن الأزمة الاقتصادية والسياسية في مصر متشابكة، وأن سياسة السيسي قائمة على القمع والجمود السياسي بدلاً من الإصلاح الحقيقي، ما أدى إلى تعميق الأزمات بدلاً من حلها.

ففي حين يحاول السيسي إلقاء اللوم على عوامل خارجية مثل التضخم العالمي، لا يمكن إخفاء أن إصلاحات الدعم التي فرضتها الحكومة بدون توفير حماية اجتماعية واسعة النطاق أضرت بشكل خاص بالفئات الفقيرة والمتوسطة.

ويرى مستنصر بارما، الخبير الاقتصادي، أن القمع السياسي وعدم إشراك المواطنين في صنع القرار يجعل الحلول الاقتصادية غير مستدامة، وأن السياسة الاقتصادية التي تعتمد على رفع الأسعار والقروض لا يمكن أن تحقق الاستقرار الحقيقي.

 

هل أصبحت المبادرات الدينية بديلاً عن العدالة الاجتماعية؟!

تكشف مبادرة "صحح مفاهيمك" عن التوجه الدائم للنظام لاستخدام الخطاب الديني كأداة ضبط اجتماعي بديل عن العدالة والسياسات الإصلاحية، فقد سبقها مبادرات أخرى مثل "عقل واعٍ" و"خطبة الجمعة الموحدة"، وكلها تصب في محاولة توجيه سلوك المواطنين بدلًا من معالجة أسباب غضبهم أو احتجاجهم.

المفكر السياسي عمرو عبد الرحمن علق قائلًا: "يستثمر النظام في الدين كأداة لإسكات الناس، بدلًا من منحهم الحق في الرقابة والمحاسبة. المبادرات الأخلاقية تصبح مجرد عزل للناس عن الواقع المؤلم بدلًا من تغييره".

 

هل مبادرة "صحح مفاهيمك" كافية في ظل هذا المناخ؟

في ظل هذه الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتدهورة، يطرح المحللون سؤالاً مركزياً: هل يمكن لحملة توعية ودعوية عبر وزارة الأوقاف أن تصحح المفاهيم الدينية والاجتماعية بينما تتفشى الفساد والفوضى الأخلاقية من أعلى الهرم إلى القاعدة؟ تنطلق المبادرة في وقت تُغلق فيه وسائل الإعلام المستقلة والحريات العامة، كما يستمر القمع الأمني الممنهج لكل أشكال المعارضة أو النقد.

ويشير الخبراء إلى أن "صحح مفاهيمك" تجسد محاولة حكومة الانقلاب للتغطية على فشلها في معالجة جوهري للاقتصاد والديمقراطية، عبر أساليب زرع الوعي بالقيم الانضباطية وتقويم السلوك، لكن دون معالجة جذور الأزمة السياسية والفساد المستشري.

 

أهم التحفظات حول المبادرة

  • المبادرة تعتمد بشكل رئيسي على الخطاب الدعوي الرسمي في ظل غياب الاستقلالية في مؤسسات المجتمع المدني وحرية الصحافة.
  • اللافت أن وزارة الأوقاف تدير المبادرة، ما قد يحصر التصحيح في إطار ضيق دون مساحة للنقاش الاجتماعي والسياسي المفتوح.
  • غياب شفافية وقياس موضوعي لتأثير المبادرة على السلوك الاجتماعي في ظل غياب وجود آليات لرصد الفساد ومحاسبة الفاسدين يجعل المبادرة شكلية.
  • انعدام إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية تحول دون استقرار وازدهار ينعكس إيجابياً على السلوك الاجتماعي والعائلي.

على الرغم من أهمية تصحيح المفاهيم والقيم السلوكية في أي مجتمع، إلا أن مبادرة "صحح مفاهيمك" تأتي وسط بيئة مشحونة بأزمات اقتصادية طاحنة وفساد مستشري وانتهاكات للحريات السياسية والاجتماعية، في ظل سيطرة عسكرية أمنية على السياسة وغياب محاسبة للفساد.

في هذه الظروف، تبدو المبادرة واجهة إعلامية لا تغني ولا تسمن من جوع، ما يدعو إلى التشكيك في قدرتها على نجاح حقيقي قد يساهم في تحصين الوطن أو بناء وعي راسخ دون معالجة حقيقية للأزمات البنيوية التي تعيشها مصر.

بهذا، تبقى مبادرة "صحح مفاهيمك" حلمًا مهددًا بالتلاشي وسط واقع مأساوي من الفساد والاضطراب يعيشه الوطن بكافة مناحيه.