في ظل تصاعد الخطاب الإعلامي الإسرائيلي المبرّر لحرب الإبادة والتجويع ضد غزة، اعتبر المحلل السياسي في صحيفة "هآرتس" تسفي برئيل أن القطاع المحاصر قد حقق ما وصفه بـ"انتصار وجودي وأخلاقي" على إسرائيل. هذا الانتصار، وفق برئيل، لا يقتصر على المقاومة المسلحة، بل يتجلى في قدرة غزة على زعزعة الأسس البنيوية للدولة والمجتمع الإسرائيلي، وتهديدها بالانهيار الذاتي من الداخل، دون الحاجة إلى انقلاب أو تغيير سياسي شامل.

وربط برئيل بين هذا التقدير وما قاله النائب العربي في الكنيست أيمن عودة، بأن "غزة انتصرت، وغزة ستنتصر"، موضحًا أن هذا الشعار لم يعد مجرد تعبير عاطفي، بل بات واقعا يوميا يتجلى منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023. وأضاف أن مشاهد الموت والجوع والدمار في القطاع، تقابلها تداعيات داخلية تمزق إسرائيل وتُظهر هشاشتها السياسية والاجتماعية.

ويرى الكاتب الإسرائيلي أن ما يجري في غزة تجاوز كونه حربا عسكرية إلى كونه عاملا مغيرا لبنية إسرائيل نفسها، فبينما ينشغل الخطاب العام في إسرائيل بمظاهر الانهيار الديمقراطي، يرى برئيل أن قطاع غزة، بضحاياه وجوعه ودماره، يجري "تعديلات جينية" على المجتمع والدولة الإسرائيلية، تلغي الحاجة لأي انقلاب داخلي.

 

قضايا هامشية

ويؤكد أن الذعر الذي أعقب محاولة الانقلاب قبل 7 أكتوبر، والرعب من إقالة النائب العام، والصدمة من التعيين المتوقع لقائد متشدد على رأس جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، فضلا عن مقاطعة رئيس المحكمة العليا، والتشريعات التي تمنح الحكومة صلاحيات غير محدودة، تحولت كلها إلى قضايا هامشية.

ويضيف "النضال الذي كان يُنظر إليه كجدار الدفاع الأخير عن الديمقراطية بدأ يفقد معناه، في ظل ما يحدث في غزة".

ويشير الكاتب الإسرائيلي إلى أنه "في الوقت الذي تُكتب فيه آلاف الكلمات محذرة من موت الديمقراطية، تتولى غزة القيام بمهمة الانقلاب من الخارج، إذ يُقتل العشرات من الأطفال والنساء وكبار السن يوميا، لمجرد محاولتهم الوصول إلى طرود غذائية، وتُدفن عائلات كاملة تحت الأنقاض، في وقت لا يسمح فيه الجيش الإسرائيلي بإنقاذهم".

ووفق برئيل، لم تعد هذه مشاهد حرب استثنائية، بل باتت مبررة ضمن ما يسمى "الاحتياجات الأمنية" وحماية الجنود. ويقول "لقد أصبح وجود إسرائيل، كما يُروَّج، مشروطا بإبادة غزة"، ومن هنا، تُقدم الحرب كمهمة مقدسة، تبرر التخلي عن "الرهائن"، واستنزاف جنود الاحتياط والجنود النظاميين، وتحويل سائقي الجرافات إلى أبطال، وإراقة دماء المدنيين بلا حساب.

ويضيف برئيل "هذه العقيدة قسمت الحرب إلى أهداف تبدو معقولة: "السيطرة على 75% من القطاع"، "سقوط حكم حماس"، "إعادة الرهائن"، "تجميع السكان في مدينة إنسانية"، لكن بدلا من تحقيقها، تحولت الحرب إلى غاية في حد ذاتها. وجودها يبرر استمرارها".

 

دولة لا أخلاقية

وفيما يحاول الكاتب الإسرائيلي تصور ما يسمى "الانتصار الإسرائيلي الكامل" حسبما يراه الائتلاف الحاكم المتشدد، وذلك عبر رفع العلم الإسرائيلي فوق مساجد غزة، ونفي سكانها، والقضاء على المقاتلين، وتعبيد الطرق لإقامة المستوطنات، فإنه يطرح السؤال التالي: "مع أي أمة سنحتفل بالنصر؟".

ويجيب عن ذلك بالقول "في أقل من عامين، حوّلت غزة إسرائيل إلى دولة أخرى؛ دولة يُتاح فيها إنكار حرية التعبير، اعتقال الصحفيين، طرد المعلمين، قمع الثقافة، ضرب ذوي المختطفين، إحراق منازل الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتعذيب الأسرى".

ويخلص إلى القول "لقد شوّهت غزة أيضا مواطني إسرائيل، وغيرت لغتهم وهويتهم من مواطنين كانوا يُقدرون الحياة البشرية، أصبحوا يُسمون باسم البعثة المقدسة للتضحية بالمختطفين، والتضحية بأبنائهم، والتضحية بالآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ من شعب آخر".

ويختتم مقاله بالقول إن السيطرة على غزة "حوّلت إسرائيل إلى دولة مفككة، انتقامية، لا أخلاقية، وفوق كل ذلك، خالية من الأمل والطموح، ولن يتمكن أي نصر يأتي بثمن باهظ من شفاء وترميم الندبة العميقة التي حفرت في تاريخ الدولة وفي شخصية المجتمع الإسرائيلي".