أصدر بنك "جولدمان ساكس" الأميركي تقريراً متفائلاً بشأن الجنيه المصري، اعتبر فيه أن العملة المحلية مقوّمة بأقل من قيمتها الحقيقية بنحو 30%، مشيراً إلى أن السعر العادل للدولار هو 35 جنيهاً، مقارنة بسعره الحالي الذي يتجاوز 49 جنيهاً، في خطوة أثارت جدلاً واسعاً بين خبراء المال والاقتصاد في الداخل والخارج.
وذهب التقرير إلى حد دعوة المستثمرين لشراء الجنيه المصري وبيع الدولار، مستنداً إلى مؤشرات وصفها بأنها "إيجابية"، مثل ارتفاع الاحتياطي النقدي وتحقيق فائض في صافي الأصول الأجنبية.
لكن ما لم يقله "جولدمان ساكس" – أو تجاهله عمداً – هو الصورة الكاملة والمعقّدة للوضع الاقتصادي والتي لا تزال تتسم بهشاشة مالية واعتماد مفرط على الديون والأموال الساخنة، إلى جانب مخاطر هيكلية لا يمكن تجاهلها.
تفاؤل "جولدمان ساكس" في مقابل واقع مثقل بالديون
وفقاً لتقرير البنك، فإن من بين العوامل التي تدعم الجنيه حالياً: تحسن صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك المحلية من عجز بلغ 17.6 مليار دولار في مطلع 2023 إلى فائض قدره 4.8 مليارات دولار في مايو 2024، إلى جانب استقرار سعر الصرف بعد تعويم مارس 2024، واختفاء الفجوة بين السعر الرسمي والسوق الموازية.
غير أن هذه المؤشرات لا تعني بالضرورة تحسناً حقيقياً في بنية الاقتصاد، ففي الوقت الذي يُشيد فيه البنك الأميركي بزيادة الاحتياطي الأجنبي، يغفل الإشارة إلى أن جزءاً كبيراً من هذا الاحتياطي يتكون من ودائع خليجية مؤقتة، تصل إلى 18.3 مليار دولار، تستحق آخر دفعاتها في أكتوبر 2026، كما أن الاستقرار الظاهري في سعر الصرف تم تحقيقه بدرجة كبيرة من خلال الاعتماد على تدفقات الأموال الساخنة، وهي رؤوس أموال استثمارية قصيرة الأجل تنسحب فوراً مع أي اضطراب سياسي أو اقتصادي.
صندوق النقد يكشف الحقيقة: فجوة تمويلية وديون هائلة
تتناقض صورة "جولدمان ساكس" الوردية مع الأرقام الصادرة عن صندوق النقد الدولي، الذي أعلن أن مصر ستواجه فجوة تمويلية تُقدَّر بـ5.8 مليارات دولار خلال العام المالي 2025-2026.
وذكر أن الديون المستحقة على الدولة لصالحه وحده تمثل 12.2% من إجمالي الإيرادات العامة، في حين يُتوقع أن يصل الدين الخارجي إلى 180.6 مليار دولار هذا العام، أي ما يعادل 46.6% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويُرجّح أن يتجاوز الدين الخارجي حاجز 200 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة، نتيجة توسع الحكومة في الاقتراض الخارجي لتمويل مشاريع بنية تحتية عملاقة وسد عجز الميزانية، دون نمو موازٍ في الإنتاجية أو الإيرادات المستدامة.
موارد مهددة وأعباء متراكمة
أحد الأسئلة الجوهرية التي تتجاهلها بعض التقارير المتفائلة، هو: كيف يمكن أن يتحسّن سعر الجنيه في ظل انكماش موارد الدولة الدولارية؟ فصندوق النقد توقع تراجع إيرادات قناة السويس إلى 3.6 مليارات دولار في 2024-2025، بعد أن كانت 6.6 مليارات في السنة المالية السابقة، وذلك بفعل توترات البحر الأحمر، وهجمات الحوثيين، والتحولات في طرق التجارة العالمية.
كذلك تتعرض تحويلات المصريين العاملين بالخارج لضغوط محتملة، إذا ما استمرت دول الخليج في اتباع سياسات تقشفية وخفض العمالة الوافدة، في ضوء تراجع أسعار النفط عالمياً.
ولا تقف الالتزامات المالية عند حد الديون فقط، بل تمتد إلى التزامات عاجلة مثل سداد مستحقات شركات النفط الأجنبية، وتوفير تمويلات لاستيراد الغاز الطبيعي لمدة عامين بتكلفة تُقدّر بـ8 مليارات دولار.
"إصلاحات مؤجلة" وتدفقات مؤجلة أيضاً
التحديات لا تقتصر على التمويل، بل تشمل بطء تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها مع صندوق النقد، فقد تم تأجيل صرف الشريحة الخامسة من قرض الصندوق البالغة 1.2 مليار دولار، مع دمجها بالمراجعتين الخامسة والسادسة، وتأجيلهما إلى نهاية العام، في خطوة قد تؤثر سلباً على ثقة المانحين الدوليين الآخرين مثل الاتحاد الأوروبي، الذي ينتظر المراجعة لصرف قرض بقيمة 4 مليارات يورو.
"سعر عادل"... لمن؟
إذا كان السعر العادل للجنيه بحسب "جولدمان ساكس" هو 35 جنيهاً للدولار، فإن التساؤل الأهم هو: هل هذا السعر يعكس الواقع الفعلي لقدرة الاقتصاد على توليد الدولار؟ أم أنه يتجاهل العناصر الهيكلية التي تضغط على السوق مثل تراجع الإنتاج الصناعي والزراعي، وضعف القدرة التصديرية، وعجز الميزان التجاري، والاعتماد المفرط على الواردات؟
ولماذا يتجاهل البنك حقيقة أن هذا "السعر العادل" لا يمكن أن يصمد دون تدفقات رأسمالية ضخمة، ودون دعم مستمر من ودائع دولية وتحويلات وديون جديدة؟