في مشهد يعيد إلى الأذهان سياسات التقييد والترويض النقابي في حقبة ما قبل ثورة يناير، تشهد مصر حالياً ما يمكن وصفه بـ"هجمة منظمة" على النقابات المهنية، تتخذ أشكالاً متعددة من التدخلات القانونية والإدارية والسياسية.

وتأتي هذه الهجمة في وقت يتزايد فيه النشاط النقابي المستقل داخل عدد من أبرز النقابات المهنية مثل نقابة المحامين، ونقابة الأطباء، ونقابة الصحافيين، ما يثير تساؤلات جدية حول نوايا الدولة تجاه هذه الكيانات التي يفترض أن تكون مستقلة بموجب الدستور.

 

خطوات متسارعة لتحجيم الاستقلال النقابي
لم تكن هذه الهجمة وليدة لحظة عابرة، بل هي نتاج سلسلة من الإجراءات المتراكمة التي بدأت تدريجياً، وشملت تدخلات مباشرة في انتخابات بعض النقابات، وإلغاء جمعيات عمومية، ومحاولات السيطرة على القرار النقابي من خلال أدوات تشريعية وإدارية.

وتبدو الدولة منزعجة بشكل متزايد من حجم العضوية النشط لبعض هذه النقابات، خاصة تلك التي تملك امتداداً جغرافياً واسعاً وقاعدة جماهيرية تُمكّنها من ممارسة أدوار تتجاوز المهني إلى السياسي.

ففي أبريل الماضي، انطلقت سلسلة من الوقفات الاحتجاجية لنقابة المحامين في القاهرة وعدة محافظات، تنديداً بقرار رفع الرسوم القضائية، والذي اعتبره المحامون انتهاكاً للحق الدستوري في التقاضي.

لكن الرد الرسمي لم يكن نقاشاً أو حواراً، بل جاء عبر حكم قضائي من مجلس الدولة (يونيو 2025) قضى بوقف الجمعية العمومية التي دعت إليها النقابة لمناقشة القرار ذاته.

 

قوانين عقابية واتهامات سياسية
لم يكن المحامون وحدهم في مرمى النيران، بل واجهت نقابة الأطباء ضغوطاً مشابهة على خلفية مشروع قانون "المسؤولية الطبية"، الذي تضمن بنوداً تسمح بحبس الأطباء احتياطياً في حال ارتكاب أخطاء طبية، ما أثار موجة غضب داخل النقابة.

وقد وصلت الأزمة إلى حد تقديم وزير الصحة بلاغاً ضد الأمين العام المساعد للنقابة، متهماً إياه بنشر "أخبار كاذبة" و"إثارة الفزع"، بعد تصريحاته حول موجة متوقعة من هجرة الأطباء اعتراضاً على القانون.

وتسببت الضغوط في إلغاء نقابة الأطباء لجمعيتها العمومية، واستقالة خمسة من أعضاء مجلس النقابة احتجاجاً على هذا القرار، في مشهد يعكس حجم التدخل الخارجي في الشأن النقابي.

 

تدخلات انتخابية وتعديل تشريعي مفصّل
لم تقتصر هذه الإجراءات على التشريعات والضغوط الإدارية، بل شملت أيضاً دعم الدولة العلني لمرشحين محسوبين عليها في انتخابات النقابات.

وقد برز ذلك بوضوح في انتخابات نقابة الصحافيين الأخيرة، حيث نشطت مؤسسات صحافية رسمية في دعم مرشح بعينه، وسط تسريبات حول قانون مقترح يتيح تعيين الحكومة لأربعة أعضاء في مجلس النقابة، ويمنح النقيب صلاحيات موسعة ومدد أطول.

كما طُرحت أفكار لتجميد قيد الصحافيين الجدد و"فلترة" أعضاء النقابة الحاليين، في خطوات توحي بمحاولة إعادة إنتاج مشهد "النقابة الرسمية المروّضة"، التي لا يُسمح لها بتجاوز الحدود المرسومة سلفاً.

 

هجوم مكرّر أم استراتيجية احتواء؟
تثير هذه التطورات تساؤلاً محوريًّا: هل تسعى الدولة لإعادة إنتاج نموذج قانون 100 لسنة 1993، الذي استخدمه نظام حسني مبارك لتقييد سيطرة المعارضة (وخاصة جماعة الإخوان المسلمين) على النقابات، قبل أن يُلغى لاحقاً بحكم بعدم الدستورية؟ أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى مشروع أشمل لإعادة تعريف دور النقابات، وتحجيمها ضمن ما يشبه "القطاع المدني المُدار"، الذي يتحرك فقط بإذن سياسي؟

ما يدعم هذا الطرح هو أن كل محاولات التصدّي للنقابات تأتي متزامنة مع حالة خمول سياسي شبه تام داخل البرلمان، الذي بات يُنظر إليه من كثيرين كمجرّد "ماكينة تشريع" تمرر القوانين الحكومية دون حوار أو مراجعة حقيقية، وهو ما دفع بعض النقابات إلى القيام بدورها في ملء هذا الفراغ.

 

دور النقابات في معركة الحريات
الحراك النقابي، وإن بدا محدوداً، يحمل في طياته مؤشرات على رفض واسع لتقويض الدور المهني والمجتمعي للنقابات. فالكثير من أعضاء النقابات لا يبدون اهتماماً مباشراً بقضايا سياسية عامة، لكنهم يتشبثون بحقوقهم المهنية والنقابية، ويدركون أن إضعاف دورهم يعني تمكين السلطة من تهميشهم أو تهديدهم حتى في ممارسة عملهم اليومي.

ومن هنا، فإن أي دور مستقل للنقابات المهنية لا يُعدّ تهديداً للسلطة، بقدر ما هو مساهمة في استعادة التوازن بين المجتمع المدني والسلطة التنفيذية، وتحسين مناخ الحقوق والحريات العامة، لكن يبدو أن هذا التوازن هو بالضبط ما تسعى بعض أجهزة الدولة إلى منع تحققه.