كشف تحقيق استقصائي موسّع، أن ما يُعرف بـ"مجلس رؤساء محاكم الاستئناف" – الجهة التي أصدرت قرار زيادة رسوم التقاضي بداية من مارس الماضي – لا يتمتع بأي صفة قانونية أو وجود دستوري، وفق حكم قضائي نهائي صادر منذ أكثر من 17 عامًا، في فضيحة غير مسبوقة تهز أركان المنظومة القضائية.

تُظهر الوثائق والمقابلات والشهادات التي حصلت عليها الصحيفة أن هذا المجلس لا يعدو كونه كيانًا "وهميًا"، منعدم الشخصية الاعتبارية، ولا سند قانوني له في منظومة العدالة المصرية، ورغم ذلك، فقد مارس سلطات إدارية واسعة، من بينها فرض رسوم قضائية أثقلت كاهل المتقاضين وأشعلت غضب نقابة المحامين.

 

حكم قضائي يُهمل منذ 2008

التحقيق الاستقصائي حصل حصريًا على نسخة من الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار محمد أحمد عطية بتاريخ 2 ديسمبر 2008، والذي قضى بوقف تنفيذ قرار وزير العدل المتعلق بإنشاء المجلس، مؤكدًا أن هذا الكيان ليس منصوصًا عليه في قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 أو تعديلاته.

الحكم اعتبر المجلس منعدماً قانونًا، وأكد أن جميع قراراته – ومنها فرض الرسوم – صادرة من جهة غير قائمة قانونًا، وتمثل إخلالًا بمبدأ المشروعية الدستورية. المفارقة أن الحكم ذاته استند إلى دعوى رفعها قضاة بارزون آنذاك، منهم المستشار هشام جنينة والمستشار زكريا عبد العزيز.

 

المحامون يحتجون والقضاة يصمتون

أشعلت قرارات زيادة الرسوم القضائية موجة احتجاجات واسعة في أوساط المحامين، دفعت نقابتهم إلى إعلان إضراب شامل أمام محاكم الاستئناف، في سابقة غير معتادة داخل أروقة العدالة. وفي المقابل، اكتفى مجلس القضاء الأعلى ومحكمة استئناف القاهرة بالصمت، بينما صرّح مصدر قضائي: "لن ندلي بتصريحات رسمية في هذا التوقيت".

خلفيات سياسية وإنشاء "موازٍ" للقضاء الأعلى
تعود جذور إنشاء هذا المجلس إلى خلاف شخصي حاد بين المستشار ممدوح مرعي – رئيس محكمة استئناف القاهرة آنذاك – والمستشار فتحي خليفة رئيس محكمة النقض، بسبب الأقدمية في رئاسة مجلس القضاء الأعلى. دفع ذلك مرعي إلى تأسيس مجلس موازٍ لتجميع رؤساء محاكم الاستئناف، وتوسعت صلاحياته تدريجيًا خارج نطاقها الإداري لتشمل قرارات مالية وتنظيمية، ما اعتبره قضاة وخبراء قانون "تغولًا خطيرًا".

 

شهادات واعترافات قضائية

أكد المستشار محمد ناجي دربالة، نائب رئيس محكمة النقض الأسبق، أن المجلس منعدم قانونيًا، وأن أي قرار بفرض رسوم دون سند من قانون صريح يُعد باطلًا، مشيرًا إلى أن هناك أحكامًا نهائية تؤيد ذلك.

في السياق ذاته، شدد المستشار عصام رفعت، القاضي السابق بمجلس الدولة، أن المجلس "غير موجود دستوريًا ولا قانونيًا"، معلنًا عن إعداد مذكرة قانونية شاملة موقعة من قضاة وخبراء قانون لعرضها على رئاسة الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء، بهدف وقف هذه الانتهاكات القانونية.

الخطر الأكبر: العدالة تصدر قرارات غير دستورية
الحقوقي البارز ناصر أمين، رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، ذهب أبعد من ذلك، واصفًا قرارات المجلس بـ"جرائم غدر"، مؤكدًا أن فرض رسوم دون قانون يمثل "جريمة جنائية مكتملة الأركان"، خاصةً إذا صدرت عن هيئات من المفترض أنها حامية للقانون والدستور.

وأعرب عن صدمته من أن محاكم عليا في الدولة تمارس هذا السلوك، محذرًا من أن هذه التجاوزات تمثل أخطر ما أصاب العدالة في مصر، إذ باتت المؤسسات القضائية – التي يلجأ إليها المواطن لرفع الظلم – هي نفسها مصدر الانتهاك.

 

رأي قانوني حاسم: المجلس لا وجود له والرسوم "باطلة"

الخبير الدستوري والمحامي بالنقض، صالح حسب الله الجبالي، أكد أن لا وجود قانوني أو دستوري لما يسمى "مجلس رؤساء محاكم الاستئناف"، واعتبر أن فرض رسوم جديدة بناءً على قراراته يشكّل "تعديًا صارخًا على الدستور". وأضاف أن قانون السلطة القضائية لا يمنح هذا المجلس أي صلاحيات مالية، وأن النصوص الحاكمة للرسوم ما زالت قائمة منذ القانون رقم 90 لسنة 1944، ولم تُعدّل لصالح هذه الزيادات.

كما أوضح الجبالي أن القرار الصادر مؤخرًا بزيادة قيمة 33 خدمة قضائية يعتبر مخالفة دستورية مباشرة لنص المادة 68 من الدستور، التي تكفل الحق في التقاضي دون عوائق مالية مصطنعة.

 

غموض في مصير الأموال المحصّلة

زاد من حدة الأزمة عدم وجود شفافية بشأن مصير الرسوم التي جرى تحصيلها، والتي لم يتضح بعد إلى أي جهة تُحوّل أو تحت أي بند قانوني تُدرج في الميزانية العامة. واعتبر قانونيون أن هذا الغموض يثير شبهة "الاستيلاء على أموال عامة دون وجه حق".