في مشهد يُشبه السير على حافة هاوية، يدقّ عدد من خبراء الاقتصاد والمستثمرين ناقوس الخطر من احتمالية انفجار "فقاعة عقارية" في وقت تتجه فيه شركات التطوير العقاري إلى مخاطبة طبقة الأثرياء فقط، وتتجاهل احتياجات الطبقة المتوسطة التي كانت حتى وقت قريب تشكّل العمود الفقري لحركة البيع والشراء في السوق العقارية.

التحذيرات الأخيرة التي أطلقها رجل الأعمال نجيب ساويرس لم تكن مجرد تصريحات عابرة، بل تعكس تصدّعاً فعلياً في البنية الاقتصادية لسوق العقارات، وتكشف عن أزمة تتجاوز حدود الركود المؤقت لتصل إلى مرحلة تهدد بانكماش مزمن، ما لم يتم التدخل بسياسات تصحيحية جذرية.

 

نزيف مدخرات الطبقة المتوسطة.. من الشراء للاستثمار إلى الانسحاب الاضطراري
على مدار العقدين الماضيين، اعتُبرت العقارات "الملاذ الآمن" للادخار والاستثمار، وخاصة للطبقة المتوسطة. لم يكن من الغريب أن تمتلك الأسرة أكثر من وحدة سكنية، تُستخدم إحداها للسكن والأخرى كمصدر دخل أو وسيلة لضمان المستقبل.

لكن الوضع تغيّر جذرياً. الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه المصري على مدى السنوات الماضية، والتآكل المستمر للمدخرات، جعلا من القدرة الشرائية لتلك الطبقة مجرد ذكريات. أحد كبار مسؤولي الشركات العقارية الكبرى كشف أن شركته سجلت تراجعاً بنسبة 60% في المبيعات منذ بداية عام 2025، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، في حين انخفضت الأرباح بنسبة تصل إلى 35%.

لم تعد العقارات، كما كانت في السابق، أداة لحفظ قيمة المال أو الاستثمار الآمن، بل باتت عبئاً على المشترين الذين يجدون أنفسهم أمام أقساط لا تُطاق، وركود يمنعهم من إعادة بيع وحداتهم دون خسائر فادحة.

 

انفصال المطورين عن واقع المستهلكين.. بناء للأثرياء فقط
في وقت تتراجع فيه القوة الشرائية، يُصرّ المطورون العقاريون على رفع الأسعار بشكل متسارع، بحجة تغطية تكاليف البناء التي تتأثر بسعر الصرف وتقلبات السوق. شركات عقارية كبرى تتجه اليوم إلى تقسيط ثمن الوحدات حتى 15 عاماً، وهو ما اعتبره ساويرس "مقامرة" قد تؤدي إلى كارثة.

النتيجة؟ سوق غير مستقر، قلق من المستقبل، وشلل في حركة البيع والشراء، يرافقه انهيار تدريجي لثقة المستهلكين.

 

"الفقاعة" ليست نظرية.. بل واقع يتشكّل
الفقاعة العقارية ليست مصطلحاً جديداً في الاقتصاد، لكنها حالة تتكرر في كل الأسواق التي تفقد العلاقة المنطقية بين العرض والطلب. في مصر، تتضخم الأسعار دون مبرر إنتاجي حقيقي، ويتراجع الطلب بشكل يومي. فالمواطن الذي اشترى وحدة بمبلغ 7 ملايين جنيه في 2024 – كما في حالة إسلام صبحي، تاجر الأدوات المنزلية – لم يجد مشترياً رغم عرضه للعقار دون أرباح.

المفارقة أن الشركات نفسها بدأت تخترع حلولاً لتصريف الوحدات، من بينها تحويل الشقق إلى "أسهم عقارية" بقيمة تبدأ من 50 ألف جنيه، أو الاتجاه نحو التوسّع في مشاريع بالخليج العربي، خصوصاً السعودية والإمارات.

 

الركود يبتلع العاصمة الإدارية والمناطق الجديدة
رغم ما تبذله الحكومة من جهود لترويج مشروعات العاصمة الإدارية، التجمع السادس، ومستقبل سيتي، فإن المعروض من الوحدات السكنية، خصوصاً الفيلات والشقق الفاخرة، تجاوز بأشواط الطلب الحقيقي.

وفق تقرير لشركة "ذا بورد كونسلتينج"، فإن السوق يشهد حالياً فائضاً ضخماً في المعروض، يترافق مع ضعف القدرة الشرائية، وتحول الاستثمار العقاري إلى مضاربة قصيرة المدى لم يعد لها مبرر في ظل ثبات العملة وتقلّص فرص الربح.

 

ماذا يقول المطورون؟ وماذا تفعل الدولة؟
رغم المؤشرات السلبية، يصرّ مسؤولو وزارة الإسكان على أن "الحديث عن فقاعة مبالغ فيه". الوزير شريف الشربيني قال إن "السوق المصرية بعيدة عن الفقاعة العقارية"، مستنداً إلى الطلب الكامن الناتج عن الزيادة السكانية، التي تتطلب توفير ما لا يقل عن 200 ألف وحدة سكنية سنوياً.

لكن هذا المنطق لم يعد مقنعاً، فالأزمة اليوم ليست في عدد السكان بل في قدرتهم على الشراء. وإن استمرت شركات العقارات والحكومة في تجاهل هذه الحقيقة، فإن التوسع العمراني سيفشل في تحقيق أهدافه، وستتكدس الوحدات دون مشترين.

 

فقاعة تتشكّل بهدوء.. الأسعار لا تعكس القيمة الحقيقية
ما يجري في سوق العقارات المصرية هو عملية تضخيم لقيم غير واقعية، مدفوعة برهانات غير مدروسة على المستقبل. أسعار العقارات ارتفعت بنسبة تصل إلى 200% خلال ثلاث سنوات، بينما الأجور ومدخرات المواطنين ظلت راكدة، أو تآكلت.

الخبراء يحذرون من أن هذه الوتيرة تعني أن السوق لن يصمد طويلاً، وأن الانفجار قادم إذا لم تُتخذ إجراءات حقيقية لإعادة التوازن، تبدأ من تسعير عادل للوحدات، وتوفير تمويل مناسب، والعودة لبناء وحدات تتماشى مع احتياجات الطبقة المتوسطة، وليس فقط النخبة.