كشفت وكالة "بلومبرغ" الأمريكية في 14 يوليو 2025، نقلًا عن مصادر مطلعة، أن حكومة الانقلاب المصرية أجلت استلام شحنات من الغاز الطبيعي المسال كانت مقررة سابقًا، على أن يتم تسلمها في أغسطس المقبل بدلًا من يوليو، وهو تأجيل يعكس اضطرابات في البنية التحتية للطاقة، وخصوصًا في ظل عدم الانتهاء من تجهيز محطات التغييز (تحويل الغاز المسال إلى حالته الغازية)، وتزامن هذا التطور مع موجة حر شديدة تضرب مصر، وارتفاع غير مسبوق في استهلاك الكهرباء، مما يضع تساؤلات خطيرة حول قدرة النظام الحالي على إدارة قطاع الطاقة الحيوي.

بحسب "بلومبرغ"، فإن سبب التأجيل يعود إلى "عدم بدء تشغيل محطات تغييز جديدة"، في إشارة واضحة إلى تأخر مشروعات كان من المفترض أن تساهم في سد العجز المتفاقم في الكهرباء والغاز، لكن هذا التفسير الفني يخفي وراءه أبعادًا اقتصادية وسياسية عميقة تتصل بفشل حكومة الانقلاب العسكري في التخطيط والإنفاق الرشيد على مشروعات البنية التحتية.

 

الطاقة.. من مصدر للدخل إلى عبء مالي

في السنوات الماضية، روّج نظام السيسي لمصر كـ"مركز إقليمي للطاقة"، خاصة بعد الاكتشاف الضخم لحقل "ظُهر" في 2015، والذي قُدّر احتياطيه بنحو 30 تريليون قدم مكعب من الغاز، وبحلول 2018، أعلنت مصر "الاكتفاء الذاتي" من الغاز الطبيعي، غير أن هذا الاكتفاء تبخّر تدريجيًا، مع عودة مصر إلى الاستيراد في عام 2023، بسبب زيادة الاستهلاك المحلي، وتراجع الإنتاج، وتصدير كميات من الغاز إلى أوروبا على حساب السوق الداخلية.

بيانات وزارة البترول أظهرت أن إنتاج الغاز الطبيعي تراجع من 7.2 مليار قدم مكعب يوميًا عام 2021 إلى أقل من 5.8 مليار قدم مكعب بنهاية 2024، فيما ارتفع الطلب إلى أكثر من 6.5 مليار قدم مكعب يوميًا في شهور الصيف، ويأتي هذا التراجع في ظل أزمة خانقة في العملة الأجنبية، دفعت الحكومة إلى ترشيد الاستيراد، بما في ذلك واردات الطاقة، وسط توقعات بعجز يتجاوز 2 مليار دولار في ميزانية الطاقة لهذا العام.

 

محطات التغييز المتأخرة.. فشل إداري أم فساد؟

منذ 2022، وعدت الحكومة ببناء وتشغيل محطات تغييز جديدة في البحرين الأحمر والمتوسط لتغطية النقص في الطاقة، خصوصًا مع تنامي الطلب الصناعي والسكني، لكن تقرير بلومبرغ يشير إلى أن تلك المحطات لم تُفعّل بعد، وهو ما يثير علامات استفهام حول أسباب التأخير، وما إذا كانت متعلقة بسوء التخطيط، أم بتورط شركات مقربة من المؤسسة العسكرية في مشروعات غير مكتملة أو غير مطابقة للمواصفات.

وكان من المفترض أن تدخل محطة تغييز "العين السخنة" الخدمة في منتصف 2024، بتكلفة تجاوزت 350 مليون دولار، إلا أن تقارير صحفية محلية تفيد بأنها لم تكتمل بسبب مشاكل فنية وتمويلية، ويرى خبراء أن هذا التعثر انعكاس مباشر لسياسات النظام الذي يعتمد على "المنظومة العسكرية" في تنفيذ المشروعات دون رقابة حقيقية أو شفافية في التعاقدات.

 

انقطاعات في الظل

مع دخول شهر يوليو، شهدت مناطق واسعة من القاهرة الكبرى ومحافظات الصعيد والدلتا انقطاعات متكررة للكهرباء، تتراوح بين ساعة إلى ثلاث ساعات يوميًا، ورفضت وزارة الكهرباء ربط ذلك بعجز الغاز، واعتبرت أن الأمر "جزء من خطة الترشيد"، رغم أن الواقع يناقض هذه التصريحات.

وقد أكد عضو لجنة الطاقة بمجلس النواب السابق، النائب هيثم الحريري، أن "مشكلة الكهرباء ليست فقط في نقص الوقود، بل في غياب العدالة في التوزيع، وغياب الخطط الطارئة لمواجهة الذروة الصيفية".

في المقابل، لجأت الحكومة إلى تحميل المواطن عبء الأزمة عبر الزيادات المتتالية في أسعار الكهرباء، التي ارتفعت بنسبة 25% في يوليو 2025 فقط، وهي أكبر زيادة منذ تعويم الجنيه في مارس 2024، رغم وعود السيسي بعدم المساس بالدعم "قبل نهاية البرنامج الاقتصادي في 2026".

الاقتصادي البريطاني "تيم كلارك"، المتخصص في سياسات الطاقة بالشرق الأوسط، علّق على تقرير بلومبرغ قائلاً: "الوضع في مصر لا يتعلق فقط بتأخر محطات تغييز، بل بنموذج اقتصادي قائم على المشروعات الاستعراضية، بدلًا من الاستثمار في البنية الأساسية".

وأضاف: "نقل الغاز لا يعني شيئًا إذا لم تكن لديك شبكة توزيع وكفاءة تشغيل، وهذا ما تفتقده مصر بشدة".

من جانبه، انتقد الخبير الاقتصادي المصري، الدكتور علاء البحيري، سياسة النظام قائلاً: "تمت إضاعة أكثر من 20 مليار دولار خلال 10 سنوات على مشاريع لم تقدم حلولًا حقيقية لأزمات الطاقة، والنتيجة أن مصر، التي كانت تُصدّر الغاز، أصبحت تتوسل لتأجيل شحنات لا تملك سعتها التخزينية".

 

الخيارات المحدودة أمام سلطة مأزومة

في ضوء هذا المشهد، تبدو حكومة السيسي محاصرة بين ضغوط داخلية متزايدة بسبب ارتفاع الأسعار وانقطاع الكهرباء، وبين التزامات خارجية تجاه شركات الطاقة والممولين الدوليين، ولا تبدو خيارات النظام كثيرة، لا سيما مع تراجع الثقة الدولية، وتزايد الشكوك حول كفاءة الإنفاق الحكومي، في وقت لا تزال فيه الأولوية تُمنح لمشروعات العاصمة الإدارية والعسكر الاقتصادية، على حساب حاجات المواطن الأساسية.

ومع ترقب وصول الشحنات المؤجلة في أغسطس، يبقى السؤال: هل سيتغير شيء؟ أم أن الأزمة ستتكرر، ما دامت الأسباب الجذرية لا تزال قائمة في ظل حكم لا يرى في الطاقة إلا سلعة للتصدير والدعاية، لا حقًا من حقوق الناس؟