شهدت مصر خلال الأسبوع الأخير موجة غير مسبوقة من الحرائق التي طالت مناطق مختلفة من البلاد، من الأسواق الشعبية والمصانع إلى الأراضي الزراعية ومخازن الغذاء، وسط صمت رسمي وتجاهل حكومي أثار غضب الشارع المصري، وفتح الباب أمام تساؤلات حقيقية حول الجهة المسؤولة، ومدى تورط النظام الانقلابي بقيادة عبد الفتاح السيسي، سواء بالتقصير المتعمد أو التواطؤ.
حرائق متعددة في توقيت واحد: عبث أم سياسة ممنهجة؟
منذ بداية شهر يوليو 2025، سُجّل اندلاع أكثر من 27 حريقًا في مواقع استراتيجية بمحافظات القاهرة، الجيزة، الشرقية، البحيرة، أسيوط، والمنوفية.
أبرز تلك الحرائق كان حريق سوق العتبة يوم 7 يوليو، والذي التهم أكثر من 100 محل تجاري وتسبب في خسائر أولية تجاوزت 150 مليون جنيه، وفق تقديرات الغرفة التجارية بالقاهرة.
كما اندلع حريق آخر ضخم يوم 9 يوليو بمصنع بلاستيك في منطقة أبو رواش بالجيزة، أدى إلى وفاة ثلاثة عمال وإصابة 14 آخرين بحروق واختناقات.
وفي محافظة البحيرة، شب حريق في مخزن تابع للشركة القابضة للصوامع يوم 10 يوليو، أسفر عن تدمير قرابة 4,000 طن من القمح المحلي، مما أثار الشكوك حول وجود نية لتخريب المخزون الاستراتيجي من الحبوب، في ظل أزمة غذاء خانقة وتضخم يتجاوز 38%، حسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
فيما يلي تفاصيل حرائق الأسبوع الأخير في مصر
- حريق سنترال رمسيس، القاهرة
اندلع مساء يوم الإثنين 7 يوليو 2025 في مبنى سنترال رمسيس، وهو أكبر مركز اتصالات في مصر يقع في وسط العاصمة القاهرة. استمر الحريق حوالي 20 ساعة وأدى إلى تعطل خدمات الإنترنت والهاتف الأرضي، مما تسبب في توقف التداول في البورصة وتعطل خدمات البنوك والمعاملات المالية. التحقيقات الأولية رجحت أن سبب الحريق هو ماس كهربائي، مع تجدد اشتعال الحريق عدة مرات بسبب طبيعة الأجهزة الإلكترونية والدوائر الكهربائية المتضررة. قوات الحماية المدنية تمكنت من السيطرة على الحريق تدريجياً، لكن السنترال ظل خارج الخدمة لأيام عدة. - حريق مطعم في منطقة سيدي بشر، الإسكندرية
في صباح الجمعة 11 يوليو 2025، اندلع حريق هائل في مطعم ملحق بأحد الفنادق الشهيرة على كورنيش سيدي بشر بالإسكندرية، تصاعدت أدخنة كثيفة وأثارت حالة من الذعر بين المارة والسياح. تم السيطرة على الحريق بسرعة دون وقوع إصابات بشرية، السبب الرئيسي للحريق كان ماس كهربائي في أحد أجهزة التكييف داخل المطعم. الحريق تسبب في خسائر مادية في واجهة المطعم وأجهزة التكييف وبعض الكراسي الخشبية. - حريق في مركز تجاري بالشيخ زايد
في وقت مبكر من يوم السبت 12 يوليو 2025، تم السيطرة على حريق اندلع في أحد المراكز التجارية الشهيرة بمدينة الشيخ زايد. لم تسجل أي إصابات، وتمت السيطرة على الحريق بسرعة من قبل قوات الحماية المدنية.
بالإضافة إلى هذه الحرائق الكبرى، تشير إحصائيات جهاز الإحصاء إلى أن محافظة القاهرة تتصدر عدد حوادث الحرائق في مصر بعدد 6288 حادثة بنسبة 13.4% من إجمالي الحرائق، تليها محافظة الغربية بعدد 3990 حادثة بنسبة 8.5%، مع أن الماس الكهربائي يمثل السبب الرئيسي في نسبة كبيرة من هذه الحرائق، بنسبة 18% من إجمالي مسببات الحريق، بينما تشكل النيران الصناعية (مثل أعقاب السجائر والشماريخ) 31.6%.
هذه الحرائق المتزامنة في مواقع حيوية ومناطق مختلفة تثير تساؤلات حول أسبابها الحقيقية، خاصة في ظل الظروف المناخية الحارة واستخدام مكثف لأجهزة التكييف، إضافة إلى ما يصفه خبراء بالفساد والإهمال في إجراءات السلامة، مما يجعل ماس الكهرباء السبب الأبرز والمتكرر في هذه الكوارث.
من وراء تلك الحرائق؟ تواطؤ أم تسيب ممنهج؟
بينما سارعت الجهات الرسمية إلى نسب الحرائق إلى “ماس كهربائي” أو “الطقس الحار”، يشير مراقبون إلى أن تكرار الحرائق في مواقع حيوية يعكس إما فشلًا إداريًا ذريعًا أو خطة خفية للتخلص من أصول الدولة وممتلكات صغار التجار.
الخبير الاقتصادي الدكتور هاني توفيق صرح لقناة “الحوار” أن “ما يحدث ليس عرضيًا، بل يمثل نمطًا من تصفية النشاط الاقتصادي الشعبي لصالح كبار رجال الأعمال المقربين من النظام، الذين يسعون لإعادة هيكلة السوق عبر الإقصاء القسري.”
وأوضح أن حرائق الأسواق والمخازن تدفع أصحابها إلى الإفلاس، ما يفتح الباب لشراء تلك المواقع بثمن بخس عبر سماسرة محسوبين على الأجهزة السيادية.
تضييق على الفقراء وتمهيد لصفقات مشبوهة
عدد من الحوادث الأخيرة طالت مناطق مزدحمة يسكنها الطبقة العاملة، كحريق سوق إمبابة يوم 5 يوليو، والذي أتى على ما يزيد عن 60 كشكا وبضائع تقدّر بملايين الجنيهات.
الناشط الحقوقي خالد داود أشار إلى أن تلك المناطق تقع في دوائر تطوير عقاري مستهدفة من قبل شركات محسوبة على الجيش، قائلاً: "كل ما لا يمكن تهجيره بالترهيب، يُحرق ليلًا تحت ذريعة القضاء على العشوائيات."
ويتفق معه الصحفي هشام يونس الذي كتب على حسابه: “هل هي مصادفة أن تحترق الأسواق التي ترفض البيع للهيئات السيادية؟ أم أننا أمام مخطط ممنهج لتفريغ المدن من الأنشطة الاقتصادية المستقلة؟”
عجز حكومي وغياب الشفافية
على الرغم من فداحة الخسائر، لم تُعلن الحكومة حتى الآن عن أي تحقيقات جادة أو نتائج شفافة بشأن أسباب الحرائق.
بل اكتفى المتحدث باسم مجلس الوزراء، في بيان مقتضب يوم 11 يوليو، بالقول إن “الدولة تتابع عن كثب وتعمل على تعويض المتضررين وفق الإمكانات المتاحة”، من دون تحديد جدول زمني أو إعلان مسؤولية واضحة.
الصحف الرسمية تجاهلت معظم الحوادث أو تعاملت معها كأخبار عارضة، ما أثار استياء واسعًا بين المصريين على منصات التواصل، حيث تصدر هاشتاغ #من_بيحرق_مصر قائمة الترند على تويتر لساعات يوم 10 يوليو، وسط اتهامات مباشرة للنظام بأنه يسعى لتدمير البنية الاقتصادية المستقلة لتسهيل السيطرة الكاملة على الأسواق، وتغذية شبكات الفساد المرتبطة بالمؤسسة العسكرية.
تكلفة بشرية واقتصادية تتصاعد
بحسب تقرير صادر عن “المرصد المصري للعدالة”، بلغ عدد الحرائق المسجلة بين 1 و10 يوليو الجاري أكثر من 30 حريقًا، أسفرت عن وفاة 11 شخصًا، وإصابة ما لا يقل عن 52 آخرين، معظمهم من العاملين بالمحال والمخازن.
وأوضح التقرير أن "استمرار تجاهل الأسباب الحقيقية لتلك الحوادث يشير إلى نية في إخفاء الأدلة والتستر على الجناة".
أما اقتصاديًا، فقدّرت جمعية رجال الأعمال الخسائر المبدئية للحوادث الأخيرة بما يفوق 750 مليون جنيه، وهو ما يزيد الضغط على الاقتصاد المنهك أصلًا بالديون والتضخم والانكماش.
حرائق تحرق ثقة المواطن
مع غياب المساءلة وظهور مؤشرات لتورط عناصر نافذة في النظام، يتعاظم الإحساس العام بأن تلك الحرائق ليست مجرد "حوادث عرضية"، بل أدوات في يد السلطة لتقويض أي نشاط لا يدخل ضمن منظومة السيطرة الشاملة التي يفرضها نظام السيسي منذ انقلابه في يوليو 2013.
إن استهداف الأسواق والمصانع والأراضي الحيوية يعكس عقلية تدير الدولة بمنطق العسكرة والتجريف، لا بمفهوم التنمية والرعاية، وإذا استمرت السلطة في تجاهل مطالب التحقيق والمحاسبة، فإن ما يحترق ليس فقط الأسواق والممتلكات، بل ثقة المواطن نفسه في وجود دولة تحميه لا تحاربه.