بعدما همش خليجيا وأمريكيا ولم يعد له دور في المنطقة، غير الجنرال عبد الفتاح السيسي خلال القمة العربية الرابعة والثلاثين ببغداد، من خطابه بشأن غزة، لنشهد تحولًا لافتًا في اللغة والمضامين مقارنة بخطاباته السابقة.
واتسمت كلمته هذه المرة بلهجة أكثر صرامة وإنسانية، خاصة في تناوله للعدوان الإسرائيلي على غزة، حيث وصف ما يحدث بأنه "إبادة ممنهجة" و"جرائم ضد الإنسانية"، في تصعيد لغوي غير مسبوق في الخطاب المصري الرسمي، لكنه في الأخير يظل خطابا فلم يفتح المعبر ولم يرسل حتى جرعة ماء.
وللفت الأنظار إليه وتسليط الضوء عليه مرة أخرى انتقد السيسي صراحة التطبيع العربي مع إسرائيل دون حل عادل للقضية الفلسطينية، مشددًا على أن السلام لن يتحقق دون إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967.
وبانت نواياه الخفية، بعدما أعلن عن مبادرة مصرية لعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار غزة فور وقف العدوان، مؤكدًا رفض أي محاولة لتهجير سكان القطاع، وذلك لنهب بعض المال، واستفادة شركات الجيش المصري حيث أنها بسبب قربها الجغرافي ومعبر رفح ستسيطر على معظم المشاريع بسبوبة كبيرة.
وعلى خلاف الخطابات السابقة التي غلبت عليها الدبلوماسية العامة، حمل خطاب السيسي الأخير طابعًا اجتماعيا استخدم فيه تعبيرات إنسانية مؤثرة مثل "صرخات الأمهات في غزة"،كأنه وبعد ما يقرب من عامين تذكر أو سمع تلك الصرخات، في أسلوب استاء منه المتضررين في غزة الذين يرون أنه يتاجر بدمائهم.
ويرى محللون أن خطاب السيسي جاء بهذه الطريقة كرد فعل على تجاهل دعوة السيسي إلى القمة الخليجية الأمريكية في الرياض قبل 4 أيام من القمة، رغم أنه حضر القمة السابقة في العام 2017، وربما بسبب الترتيبات السياسية والأمنية الإقليمية التي تتجاهل مصر مؤخرا.
مواقف متناقضة
ويأتي هذا الخطاب مناقضا لخطبات سابقة، ما يلقي بظلال من الشكوك حول مصداقية وجدية هذا الموقف؛ جملة من الإجراءات التي تقاعست السلطات المصرية عن القيام بها لمواجهة العدوان على غزة، بل على الحدود المصرية لفترة طويلة، ومن ذلك عدم اتخاذ موقف حاسم تجاه منع الكيان الصهيوني لدخول قوافل الإغاثة التي تكدست على الجانب المصري من الحدود حتى فسدت الكثير من محتوياتها نظرا لطول المدة، ورغم أن الكثير من النشطاء المصريين والأجانب طلبوا السماح لهم بالدخول مع قوافلهم على مسئوليتهم الشخصية.
كما أظهرت تصريحات سابقة للسيسي خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الألماني أنه لا يعارض التهجير من حيث المبدأ، ولكنه يعارض التهجير إلى مصر فقط، بدليل تقديمه نصيحة للجانب الإسرائيلي بتهجير أهل القطاع إلى صحراء النقب حتى ينتهي جيش الاحتلال من مهمته الوحشية في القطاع.
ولم تسمح السيسي على مدى عام ونصف العام بخروج مظاهرات منددة بالعدوان باستثناء مظاهرتين نظمتهما أجهزة السلطة، واحدة بعد أسبوعين من العدوان (20 أكتوبر 2023) والثانية في الثامن من أبريل الماضي أمام معبر رفح (حيث كان الحضور انتقائيا من الأجهزة الأمنية لمنع أي نشطاء سياسيين حقيقيين من المشاركة).
وقد بدت المظاهرتان باهتتين، وغير مقنعتين لأحد داخل مصر أو خارجها، كما نظم نشطاء سياسيون مظاهرات محدودة على سلالم نقابة الصحفيين خلال رمضان الماضي، وقبل يومين في الذكرى السابعة والسبعين للنكبة، واعتقلت السلطات الأمنية المصرية مئات النشطاء بتهمة التحضير للتظاهر في مناطق متعددة.
خطاب إنساني والدماء لاتزال تسيل
قال”نبيل أبوالياسين ”رئيس منظمة الحق الدولية لحقوق الإنسان، إنه ومنذ عقود، والشعارات تتصاعد في القمم العربية، والبيانات تُقرأ بصوتٍ عالٍ، لكن الدماء لا تزال تسيل في فلسطين، والأطفال يموتون جوعاً تحت أنقاض غزة، واليوم، وقف “عبدالفتاح السيسي” في قمة بغداد ليُعلن ما يعرفه كل عربي، أن ما تفعله إسرائيل هو “إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وجريمة تجويع ممنهجة”.
وتابع لكن السؤال الذي أُطاردُ به الضمير العربي في بياني هذا “لماذا تتحول قرارات القمم إلى حبر على ورق؟”، ولماذا نطالب المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل بينما نحن” الأقرب إلى القضية”، لا نتحرك إلا بالكلمات؟، ولماذا تُدار الاجتماعات العربية بمنطق “الاستجابة” وليس “الفرض”؟، مصر، برصيدها التاريخي وثقلها الاستراتيجي، رفضت أن تكون شريكاً في مكافأة الجلاد، ولكن هل يكفي الرفض وحده بينما غزة تُذبح؟.
وأضاف”أبوالياسين” أن كل قمة تُنتج بياناتٍ تُدين “العدوان”، وتُطالب بوقف “المجازر”، لكن أين آلية التنفيذ؟، لماذا لا تتحول القرارات إلى حزمات عقوبات فورية؟، ولماذا لا تُغلق السفارات أمام الدبلوماسية الإسرائيلية؟، ولماذا لا تُعلن الدول العربية مقاطعةً شاملةً لكل من يُسلّح الاحتلال؟، بدلاً من أن تجلس بعضها على طاولة مع الجلاد وتكافئه، التاريخ يُخبرنا أن الضغوط الاقتصادية والسياسية تُغير الموازين، لكن القمم تفضل “اللغة الدبلوماسية” التي لا تُحرك ساكناً.
في نهاية المطاف، يبقى دور السيسي في حصار غزة بارزا، ومسؤوليته عن الأعمال التي تعتبر
جرائم ضد الإنسانية
موضوعا يستدعي النظر الدقيق من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الشعبية، ولتحقيق العدالة يتطلب التزاما جادا وتعاونا دوليا للوقوف في وجه الانتهاكات وضمان حماية حقوق الإنسان في جميع الظروف.
كما يجب أن يتعين على العالم الإسلامي والمجتمع الدولي الوقوف بحزم ضد أي انتهاكات لحقوق الإنسان في غزة إذا توفرت لديها نية صادقة لتحقيق العدالة لغزة وشعبها ويتطلب هذا جهودا مستمرة من قبل الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني لضمان احترام حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني.