وسط صراع عالمي محموم على ممرات التجارة الدولية، تتحول قناة السويس -أحد أهم الشرايين الملاحية في العالم- إلى ساحة استثمارات وامتيازات أجنبية مثيرة للجدل، تتراوح بين النفوذ الإماراتي المتنامي، والتوسع الروسي، والاختراق الصيني، وحتى طموحات أمريكية صريحة، بينما تتزايد المخاوف من التفريط في السيادة الوطنية تحت غطاء "الاستثمار" و"التنمية".
 

منطقة اقتصادية.. أم ساحة تنازلات؟
   تمتد المنطقة الاقتصادية لقناة السويس على مساحة 455 كم²، وتضم 6 موانئ بحرية و4 مناطق صناعية، يشرف عليها 15 مطوّرا صناعيا بنظام "حق الانتفاع".
إلا أن هذا الحق، بات -وفق مراقبين- غطاءً لعقود طويلة الأجل تُمنح فيها أراضٍ مصرية لشركات أجنبية، أحيانًا دون مقابل، في ظل قوانين تحصّن هذه الاتفاقيات من الطعن القضائي، أبرزها القانون 32 لسنة 2014، الذي أقرّه عبد الفتاح السيسي في بداية حكمه.
 

اتفاق روسي غامض بعد زيارة السيسي
   في أحدث الأمثلة، وقّعت القاهرة وموسكو اتفاقية تمنح الشركات الروسية أراض داخل المنطقة الاقتصادية لإقامة منطقة صناعية روسية، بعقد "حق انتفاع غير محدد المدة" وبلا مقابل للثلاث سنوات الأولى، تتولى إدارته شركة روسية أُسست حديثًا في مصر.

الاتفاق الذي جاء بعد زيارة السيسي إلى روسيا، أثار انتقادات حول "الغموض"، و"السرعة غير المفهومة"، خصوصًا أن الحديث عن هذه المنطقة يعود إلى عام 2019، لكن التنفيذ تأخر حتى تزامن مع دعوة بوتين للسيسي للمشاركة في احتفالات النصر بموسكو.
 

الهيمنة الإماراتية.. من الموانئ إلى المناطق الصناعية
   الإمارات تبدو الأوفر حظًا في هذا السباق. ففي مايو 2025، وقعت مجموعة موانئ أبوظبي اتفاقًا لتطوير وتشغيل منطقة صناعية لوجستية بالمدخل الشمالي للقناة قرب بورسعيد، على مساحة 20 كم² ولمدة 50 عامًا، مع نسبة أرباح مصرية ثابتة لا تتجاوز 15% من الإيرادات، إلى جانب إعفاءات ضريبية كاملة، وتحمل الحكومة تكلفة البنية التحتية.

هذه الصفقة ليست سوى حلقة من سلسلة امتيازات منحتها مصر للإمارات منذ عام 2022، شملت تشغيل موانئ الغردقة وسفاجا وشرم الشيخ، وتطوير محطة سفاجا متعددة الأغراض، وميناء العين السخنة.
وقد أثارت هذه العقود تساؤلات حول جدواها المالية والسيادية، خاصة مع غياب الشفافية بشأن شروطها.
 

النفوذ الصيني في مرمى النار الأمريكية
   الصين، من جانبها، عززت وجودها في المنطقة ضمن مشروع "الحزام والطريق"، حيث تجاوزت استثماراتها 3 مليارات دولار في المنطقة الاقتصادية، بينها مشروع مصنع للمواسير بتمويل ضخم.
لكن هذه الاستثمارات لم تسلم من الضغوط الأمريكية، إذ اشترت شركة "بلاك روك" الأمريكية 90% من أصول شركة "هاتشيسون" الصينية قرب قناة بنما، إضافة إلى موانئ مصرية مثل العين السخنة والإسكندرية والدخيلة، وفقًا لمحللين.
 

مخاوف من بيع تدريجي للقرار الوطني
   ويرى سياسيون وخبراء أن ما يجري لا يمكن وصفه بالاستثمار، بل هو "تغريب مقنّع" و"بيع تدريجي للقرار الوطني"، كما قال مجدي حمدان، القيادي في حزب المحافظين.
وأضاف: "نحن أمام تنازلات لا تحفظ السيادة، وتعيدنا إلى نماذج الامتيازات الأجنبية التي جلبت الاحتلال قبل أكثر من قرن".

حمدان دعا إلى وقف فوري لأي اتفاقيات تمس السيادة المصرية على القناة ومحيطها، ومراجعة شاملة للعقود المبرمة في السنوات الأخيرة، وسط تحذيرات من دخول مصر في "احتلال ناعم" أخطر من العسكري.
 

هل تنقلب مصر على سياسة التأميم؟
   الأكاديمي والمستشار السابق عبد التواب بركات وصف الأمر بأنه "انقلاب على سياسة تأميم قناة السويس" وقال إن ما يجري "يمثل تهديدًا للأمن القومي"، ويعيد إلى الأذهان حقبة الامتيازات الأجنبية والمحاكم القنصلية التي أدّت إلى الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882.

بركات لفت إلى أن تحصين العقود من الطعن القضائي عبر قانون 2014 يُفقد المصريين أي وسيلة دستورية أو قانونية للدفاع عن حقوقهم، و"يشرّع لتغوّل النفوذ الأجنبي داخل مرفق وطني استراتيجي".
 

قناة في أزمة.. وموازنة على الحافة
   الأزمة لا تتعلق فقط بالسيادة، بل بالإيرادات المتراجعة للقناة أيضًا. فقد انخفض دخل القناة إلى 3.9 مليار دولار في 2024، بتراجع 61%، نتيجة تحويل مسارات الشحن بسبب الحرب في غزة، واستهداف الحوثيين لسفن إسرائيلية.
الأمر الذي دفع مصر لتقديم خصم يصل إلى 15% من رسوم العبور، في محاولة لاستعادة العملاء.

وفي مواجهة هذا التراجع، تتجه الحكومة إلى خطوات مثيرة للجدل، منها تعديل قانون هيئة القناة، وتأسيس "صندوق قناة السويس" في 2022، ثم إنشاء شركة "قناة السويس القابضة" العام الماضي، وهي خطوات يعتبرها خبراء تمهيدًا لتسييل أصول القناة، وربما خصخصتها لاحقًا.