تسبب الإعلان عن توقيع اتفاق بين الهيئة الاقتصادية لقناة السويس ومجموعة "موانئ أبوظبي" الإماراتية، يمنح الأخيرة حق تطوير وتشغيل منطقة صناعية ولوجستية ضخمة على مساحة 20 كيلومترًا مربعًا شرق بورسعيد لمدة 50 عامًا قابلة للتجديد، في جدل واسع بمصر.
الاتفاق، الذي وقع بحضور رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، أعاد إلى الأذهان سيناريو امتياز قناة السويس في القرن التاسع عشر، ما دفع سياسيين واقتصاديين للتساؤل: هل تتكرر الكارثة بثوب حديث؟
ما تفاصيل الاتفاق؟
بحسب بيان رسمي، تتولى المجموعة الإماراتية تطوير وتمويل وتشغيل منطقة "كيزاد شرق بورسعيد" في المرحلة الأولى، على مساحة 2.8 كيلومتر مربع، تشمل إنشاء رصيف بطول 1.5 كيلومتر، مع إمكانية إقامة محطة شحن متعددة الأغراض.
ورغم أن البيان لم يحدد التكلفة الكلية للمشروع، أعلنت "موانئ أبوظبي" عن تخصيص 120 مليون دولار للدراسات الفنية والبنية التحتية للمرحلة الأولى، والتي ستتولى تنفيذها شركة "حسن علام" المصرية.
لكن ما فجّر الغضب الشعبي كان ما صرّح به رئيس الهيئة العامة للمنطقة الاقتصادية وليد جمال الدين في مقابلة تلفزيونية، حيث كشف أن مصر ستحصل فقط على 15% من الإيرادات السنوية للمشروع، بينما تتكفل الحكومة بتوفير كل المرافق الأساسية خارج حدود الأرض الممنوحة.
https://www.youtube.com/watch?v=s7SOnXVjnZQ
قانون "التحصين" الذي يمنع الطعن
لم يقتصر الجدل على الشروط المالية المجحفة فحسب، بل تفجّر كذلك بسبب قانون رقم 32 لسنة 2014، الذي يمنع الطعن على عقود الدولة مع المستثمرين إلا من قبل أطراف التعاقد، وهو ما يعني أن الشعب وممثليه، بل وحتى الجهات الرقابية، لا يمكنهم الطعن أو مراجعة تلك العقود.
القانون الذي أقره الرئيس المؤقت عدلي منصور، وطوّره لاحقًا عبدالفتاح السيسي، يُعدّ انتهاكًا صريحًا لعدد من مواد الدستور، بحسب دعوى مرفوعة أمام المحكمة الدستورية.
منطقة استراتيجية وأمن قومي في مهب الامتيازات
المنطقة التي تشملها الاتفاقية تقع في مدخل قناة السويس الشمالي، قرب ميناء شرق بورسعيد، ما يجعلها ذات أهمية استراتيجية قصوى.
وانتقد خبراء، من بينهم المستشار الأممي السابق والخبير الاقتصادي إبراهيم نوار، منح امتياز بهذا الحجم وبهذه المدة، وبهذه الشروط التي وصفها بـ"المعيبة"، في منطقة تعد من أفضل المواقع الطبيعية لإنشاء موانئ عالمية.
وقال نوار: "العائد المادي من المشروع لا يعادل أبدًا القيمة الجغرافية والاستراتيجية للموقع. يتم منح مواردنا بفتات لا يتجاوز عمولة مقاول... الأخطر أن الإمارات باتت تسيطر فعليًا على كامل الشريط الساحلي من رأس الحكمة إلى غرب العريش".
سيطرة ممتدة على البنية التحتية البحرية
تأتي هذه الصفقة ضمن سلسلة استثمارات إماراتية متنامية في الموانئ والمناطق اللوجستية المصرية.
فقد وقّعت "موانئ أبوظبي" اتفاقيات تشغيل محطات في الإسكندرية، الغردقة، سفاجا، شرم الشيخ، العين السخنة، دمياط، بورسعيد، والعريش، فيما أصبح يُنظر إلى المجموعة كمنشئة لـ"إمبراطورية بحرية" في مصر، تحت غطاء استثمار خليجي تديره أبوظبي، ويرأس مجلس إدارته طحنون بن زايد، شقيق رئيس الإمارات.
استثمارات أم تمهيد لهيمنة؟
من وجهة نظر محللين، فإن هذه الاستثمارات لا تُعد تنمية اقتصادية بقدر ما تُمثّل توطئة لاحتكار أجنبي لمنطقة حساسة تمس الأمن القومي المصري، خاصة في ظل تقارير عن إمكانية وجود شركات إسرائيلية خلف واجهة الاستثمارات الإماراتية.
وتعززت المخاوف بعد زيارة وفد إماراتي إلى العريش في سبتمبر الماضي، برفقة رجل الأعمال السيناوي عصام العرجاني المقرب من الأجهزة السيادية، وإعلان خطة إماراتية لتعمير شمال سيناء بكلفة 11.6 مليار دولار خلال خمس سنوات.
مخاوف من تكرار سيناريو "بيع القناة"
الكاتب والمحلل السياسي مجدي الحداد، تساءل صراحة عما إذا كان المشروع مقدمة لـ"بيع قناة السويس"، أو تأجيرها لعقود طويلة شبيهة بما حصل في القرن التاسع عشر مع الامتياز الفرنسي.
وأضاف: "كيف تمنح الدولة امتيازًا لـ50 عامًا قابلة للتجديد، بينما تتحمل هي تكلفة المرافق؟ ثم تحصل فقط على 15% من الإيراد الإجمالي؟ أين المكسب هنا؟ هل هذه شراكة أم تنازل عن السيادة؟".
الانتقادات تتوسع
عدد من الأكاديميين والسياسيين أبدوا رفضهم العلني للاتفاق.
النائبة السابقة علياء المهدي وصفت الصفقة بأنها "تدمير لمنطقة جبل علي" بالإمارات نفسها، معتبرة أن الإمارات لا ترغب بقيام منافس لقناة السويس، بل تسعى لتحجيمها لصالح الخط التجاري الهندي – الإسرائيلي.
الصحفي جمال سلطان اعتبر الاتفاق "جنونًا وسفهًا وإهدارًا متعمدًا للمال العام"، متسائلًا: "لماذا لا تستثمر الدولة نفسها بضعة مليارات من الـ250 مليار دولار التي اقترضتها في هذا الموقع الذهبي؟".
النائب زياد العليمي شبّه الاتفاق بامتياز ديليسبس عام 1856، معتبرًا أنه يمهّد لمرحلة شبيهة بأزمة الديون التي أدت لاحتلال بريطانيا لمصر عام 1882.
هل تُباع مصر بالعقود؟
في خضم الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر، والتي دفعت النظام لبيع أصول استراتيجية، يرى كثيرون أن هذا الاتفاق ليس مجرد صفقة تجارية، بل تجسيد لتفريط ممنهج في الموارد الوطنية، حيث يُستبدل الاستثمار المحلي المستدام، بمنح امتيازات طويلة المدى لمستثمرين أجانب، لا يُمكن حتى محاسبتهم قانونيًا.