الشيخ جعفر الطلحاوي
في القرآن المجيد ما ينبئ بوحدة المشاعر الإنسانية وتألمها لما يُصيب فرد من أفرادها قال تعالى "مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا" (المائدة: 32)، فما بالنا كل يوم بدم بارد تزهق أرواح وتُسفك دماء بغير حق فكم تُقتل الإنسانية يوميًّا في الشام وفي اليمن، ويقول تعالى: "وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا" (النساء: 93) هذا عن نفس مؤمن واحدة فما البال والحال إذا كان كل يوم يٌقتل ما لا يقل عن العشرين أو يزيد بينهم أطفال ونساء، والكل يتلقى الرصاص الغادر من الأنظمة الفاجرة بصدور عارية الظاهر، ولكنها ممتلئة بالإيمان، وأفئدة تهوي إلى ديان السماء، تأمل أن تنال حريتها التي وُلدت بها وقد سلبها منها أحزاب عهر، وأنظمة فجور، لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة.
ولقد سبق في هذا العمود أن أصَّلنا كون هؤلاء شهداء، وهاك نصوص من شق الوحي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، تبشر بكون هؤلاء الشهداء في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله، هؤلاء الذين رفعوا الرؤوس، وكسروا حاجز الخوف، وبرهنوا على أحقية دعوى هذه المظاهرات، ويواصلون الليل بالنهار في الجهر بكلمة الحق في وجه سلطان جائر، ولسوف يُسأل هؤلاء الشبيحة والبلاطجة وأعوانهم، ومن يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون عن هذه الدماء المحرمة والأرواح المعصومة، فما بال هؤلاء لا يرعوون، ولا يخشون، "أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" (المطففين: 4- 6) "وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ" (غافر: 18) في هذا اليوم العظيم يقول رسول الله صلوات الله وسلامه عليه " إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قيد ميل أو ميلين قال فتصهرهم الشمس فيكونوا في العرق كقدر أعمالهم منهم من يأخذه إلى عقبيه منهم من يأخذه إلى ركبتيه منهم من يأخذه إلى حقويه ومنهم من يلجمه إلجاما" (مسند الإمام أحمد)، ولا ملجأ من الله إلا إليه، ولا ظل في هذا اليوم إلا ظله جل مذكورًا وعز مرادًا وممن يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله شهداء هذه الثورات الذين يقتلون ظلمًا دون مظالمهم التي أوقعها بهم أنظمة الحكم في غفلة من الزمان.
وهاك من الشواهد والأدلة على هذا المعنى في الصحيح، جاء رجل إلى ابن عباس فقال يا ابن عباس، أرأيت رجلاً قتل مؤمنا قال ابن عباس- رضي الله عنهما- "فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً" (النساء: 93) فقال يا ابن عباس، أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا؟ قال ثكلته أمه، وأنَّى له التوبة وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم – "يجئ المقتول يوم القيامة آخذا رأسه إما قال بشماله وإما بيمينه تشخب أوداجه في قُبُل عرش الرحمن تبارك وتعالى يقول: يارب سل هذا فيم قتلني" (رواه أحمد وصححه الألباني في الصحيحة (6/445 ) حديث رقم :2697 قال الألباني –رحمه الله تعالى – قول ابن عباس :"وأنَّى له التوبة "مشهور عنه من عدة طرق والجمهور على خلافه /، وقد صح عن ابن عباس ما يدل على تراجعه عن قوله إلى قول الجمهور (موسوعة الألباني في العقيدة 5/ 684)")، وقُبُل عرش الرحمن: أي مقابل له ومعاين له، وهو كناية عن قربه من الله تبارك وتعالى (الفتح الرباني للساعاتي رحمه الله تعالى (16/4)) وعند الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما- إن أقرب الخلائق من عرش الرحمن يوم القيامة المؤمن الذي قتل مظلومًا، رأسه عن يمينه وقاتله عن شماله وأوداجه تشخب دمًا يقول: رب! سل هذا فيم قتلني، فيم حال بيني وبين الصلاة (طب - عن ابن عباس") وبعد هذا الموقف الرهيب يساق هؤلاء القتلة الفجرة إلى النار سوقًا بعد الحرمان من ظل الله تعالى فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَأَلَهُ سَائِلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، هَلْ لِلْقَاتِلِ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَالْمُتَعَجِّبِ مِنْ شَأْنِهِ: مَاذَا تَقُولُ؟ فَأَعَادَ عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ. فَقَالَ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَأْتِي الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا رَأْسُهُ بِإِحْدَى يَدَيْهِ مُلَبِّبًا قَاتِلَهُ بِالْيَدِ الْأُخْرَى تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ الْعَرْشَ، فَيَقُولُ الْمَقْتُولُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ: هَذَا قَتَلَنِي. فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَاتِلِ: تَعِسْتَ. وَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ" (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ.والحديث صحيح لغيره صححه الألباني في الصحيحة رقم:2697 [صحيح الترغيب والترهيب 2/ 317])، وفي الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ نَبِيِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَتَكَلَّمُ يَقُولُ: وُكِّلْتُ الْيَوْمَ بِثَلاثَةٍ بِكُلِّ جَبَّارٍ عنيد، وَبِمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِمَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، فَيَنْطَوِي عَلَيْهِمْ، فَيَقْذِفُهُمْ في غَمَرَاتِ جَهَنَّمَ ([سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها 6/ 447] حديث رقم 2699). وهؤلاء الشبيحة- في الشام- أو البلطجية- في مصر- والبلاطجة في اليمن- أو الزعران في الأردن- ومن وراءهم في سعيهم وحملهم على سفك الدماء وإزهاق الأرواح بغير حق هم أبغض الخلق إلى الله تعالى في الصحيح عَن ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: "أبْغض النَّاس إِلَى الله ثَلَاثَة: ملحدٌ فِي الْحرم، ومبتغ فِي الْإِسْلَام سنة جَاهِلِيَّة، ومطلب دم امْرِئ بِغَيْر حقٍّ ليهرق دَمه" (الجمع بين الصحيحين 2/ 74). وهذه الدماء لن تضيع هدرًا في الدنيا قبل الآخرة، في الصحيح عَن عبد الله قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "أول مَا يقْضى بَين النَّاس يَوْم الْقِيَامَة فِي الدِّمَاء" (مسند الإمام أحمد. صحيح البخاري كِتَاب الرِّقَاقِ. باب الْقِصَاصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.صحيح مسلم كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والدِّيَّات. باب المجازاة بالدِّماء في الآخرة، وأنَّها أوَّل ما يقضى فيه بين النَّاس يوم القيامة. سنن النسائي كتاب تحريم الدم. باب تعظيم الـدم.سنن ابن ماجة كتاب الديات. باب التغليظ في قتل مسلم ظلمًا) الدنيا كلها أهون على الله تعالى من نفس واحدة لمؤمن تقتل ظلما عَن الْبَراء بن عَازِب أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ "لزوَال الدُّنْيَا أَهْون عَلَى الله من قتل مُؤمن بِغَيْر حق" (صحيح وضعيف سنن ابن ماجة 6/ 119، بترقيم الشاملة آليًّا- حديث رقم 2619). وكل الشركاء في هذه الجريمة في النار وبئس القرار عن ابن عمر- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لكبهم الله على مناخرهم في النار، وإن الله حرم الجنة على القاتل والآمر" (الترغيب والترهيب لقوام السنة 3/ 190). عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم-: "لَنْ يزالَ المؤمِنُ في فُسحَة من دِينه ما لم يُصِبْ دماً حرامًا"، قال: وقال ابن عمر: "إنَّ من وَرَطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفكُ الدَّم الحرام بغير حِلِّه" (أخرجه البخاري في كتاب الديات في فاتحته).
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ مَظْلُومًا فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ نَفْسِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ جَارِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ فِي جَنْبِ اللَّهِ فَهُوَ شَهِيدٌ" (إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة 5/ 151) هذا وبالله التوفيق وللحديث صلة بحول الله وقوته.

