تحولت التقارير الإعلامية والتسريبات التي أثارت جدلاً واسعاً مطلع الأسبوع إلى واقع سياسي ملموس يوم أمس الجمعة، حيث قطعت الحكومة الإسرائيلية الشك باليقين وأعلنت رسمياً اعترافها بـ"جمهورية أرض الصومال" (صوماليلاند) كدولة مستقلة وذات سيادة.
هذا الإعلان، الذي صدر بتوقيع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لم يضع حداً للتكهنات فحسب، بل فجر عاصفة دبلوماسية في منطقة القرن الأفريقي، معيداً رسم خرائط التحالفات في البحر الأحمر، ومثيراً موجة من ردود الفعل الغاضبة التي تصدرتها مقديشو وعواصم عربية وإقليمية رأت في الخطوة "لعباً بالنار" وتهديداً مباشراً للأمن القومي العربي والأفريقي.
الجمعة 26 ديسمبر 2025، كان يوماً فاصلاً، حيث خرجت العلاقات السرية الممتدة لسنوات بين تل أبيب وهرجيسا إلى العلن، في خطوة وصفت بأنها "اختراق استراتيجي" لإسرائيل في أفريقيا، بينما اعتبرها الصومال "طعنة في الظهر" لسيادته ووحدته الترابية.
إعلان الجمعة: "شراكة استراتيجية" وطموح نحو "أبراهام"
في تطور دراماتيكي مساء الجمعة، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عبر بيان رسمي ومنشورات على منصات التواصل الاجتماعي، توقيع إعلان مشترك مع رئيس أرض الصومال، عبد الرحمن محمد عبد الله، يقضي بالاعتراف المتبادل وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة. ووصف نتنياهو الخطوة بأنها تتماشى مع "روح اتفاقيات أبراهام"، مؤكداً أن التعاون سيبدأ فوراً في مجالات الزراعة، والتكنولوجيا، والأمن، والاقتصاد.
من جانبه، أكد وزير الخارجية الإسرائيلي، جدعون ساعر، أنه أجرى اتصالاً مع رئيس أرض الصومال لترتيب تبادل السفراء، معتبراً أن إسرائيل هي "أول دولة تعترف رسمياً باستقلال أرض الصومال".
في المقابل، عمت الاحتفالات شوارع هرجيسا، عاصمة الإقليم الانفصالي، فور صدور البيان الإسرائيلي. وسارع رئيس أرض الصومال، عبد الرحمن عبد الله، إلى وصف الإعلان بأنه "لحظة تاريخية" طال انتظارها منذ إعلان الانفصال من طرف واحد عام 1991.
وفي تغريدات وتصريحات صدرت عنه الجمعة والسبت، أكد عبد الله أن بلاده "جاهزة للانضمام إلى اتفاقيات أبراهام"، معتبراً الاعتراف الإسرائيلي بوابة لكسر العزلة الدولية وفتح آفاق استثمارية، وواصفاً العلاقة الجديدة بـ"الشراكة الاستراتيجية" التي ستخدم الاستقرار في المنطقة، بحسب تعبيره.
مقديشو تنتفض: "عدوان سافر" وتهديد بالرد
لم يتأخر الرد من العاصمة الصومالية مقديشو، التي استقبلت الأنباء بغضب عارم. فقد أصدرت الحكومة الفيدرالية الصومالية بياناً شديد اللهجة يوم الجمعة، وصفت فيه الخطوة الإسرائيلية بأنها "انتهاك صارخ للقانون الدولي" و"اعتداء متعمد" على سيادة الصومال ووحدته الترابية.
وصرح رئيس الوزراء الصومالي، حمزة عبدي بري، بأن بلاده "لن تقف مكتوفة الأيدي" أمام ما سماه "المخطط لتفتيت الصومال"، مؤكداً أن الحكومة ستتخذ كافة الإجراءات القانونية والدبلوماسية للرد على هذا القرار.
واعتبرت الخارجية الصومالية أن إسرائيل تحاول تصدير أزماتها عبر إشعال الفتن في القرن الأفريقي، محذرة من أن هذا الاعتراف "يفتح أبواب الجحيم" في منطقة تعاني أصلاً من الهشاشة الأمنية وتمدد الجماعات المتطرفة التي قد تستغل الحدث لتجنيد مقاتلين بدعوى مواجهة "التمدد الإسرائيلي".
وفي تحرك عملي يوم السبت، بدأت مقديشو اتصالات مكثفة مع الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة، مطالبة بعقد جلسات طارئة لإدانة التدخل الإسرائيلي، مشددة على أن أرض الصومال جزء لا يتجزأ من الأراضي الصومالية بموجب الدستور والمواثيق الدولية.
جبهة رفض إقليمية.. وتحفظ أمريكي مفاجئ
على الصعيد الإقليمي، تبلورت سريعاً جبهة رفض قادتها مصر وتركيا وجيبوتي. ففي بيان مشترك صدر عقب اتصالات هاتفية بين وزراء خارجية الدول الثلاث مع نظيرهم الصومالي يوم الجمعة، تم التأكيد على "الرفض القاطع" لأي إجراءات أحادية تمس وحدة الصومال.
ووصفت القاهرة الخطوة الإسرائيلية بأنها "عبث بالأمن القومي العربي والأفريقي"، محذرة من تداعياتها على أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب. كما دخلت الجامعة العربية على الخط، حيث أدان الأمين العام أحمد أبو الغيط، السبت، الاعتراف الإسرائيلي، واصفاً إياه بـ"الاستفزازي" والباطل قانونياً.
المفاجأة الأبرز جاءت من واشنطن يوم السبت، فبينما حاول نتنياهو ربط الخطوة بإرث الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب (اتفاقيات أبراهام)، نقلت تقارير إعلامية عن مصادر مقربة من ترامب وفريقه الانتقالي أن الإدارة الأمريكية الجديدة "لن تحذو حذو إسرائيل في الوقت الراهن" في الاعتراف بأرض الصومال.
وأشارت التقارير إلى أن واشنطن تفضل التريث خشية أن يؤدي الاعتراف المتسرع إلى فوضى شاملة في القرن الأفريقي قد تضر بالمصالح الأمريكية، وهو موقف خفف قليلاً من نشوة الاحتفالات في تل أبيب وهرجيسا، وأبقى الباب موارباً أمام احتمالات التصعيد أو التهدئة في الأيام المقبلة.
وهكذا، يغلق الأسبوع على مشهد شديد التعقيد؛ إسرائيل تضع موطئ قدم رسمي في خاصرة القرن الأفريقي، والصومال يحشد حلفاءه للمواجهة، بينما يحبس الإقليم أنفاسه انتظاراً لما ستسفر عنه هذه "المغامرة الجيوسياسية" من تداعيات أمنية وعسكرية.

