أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة
لم يعد هناك شك في الطريق الذي تمضي إسرائيل نحوه، إذ لم يعد هذا الكيان المارق يعبأ بأي قانون دولي أو أعراف دبلوماسية. ويأتي عدوان إسرائيل على قطر، ومحاولتها اغتيال قيادة حركة حماس في الدوحة، بموافقة أميركية كاملة لا يختلف عليها أحد في إسرائيل، ليؤشّر إلى تحوّل استراتيجي كبير في السياسة الإسرائيلية، وأنها لم تعد تكثف حربها على حركة حماس وحدها، بل على الشرق الأوسط كله، وتقدّم رسالة ردع واسعة للجميع، حسب الصحافي في "هآرتس"، عاموس هرئيل، وحسب تدوينة في إكس لرئيس الكنيست نفسه، أمير أوحانا، عقب العدوان مباشرة. بل إن خطابات نتنياهو، المتوالية أخيرًا، لم تعد تخلو من تهديد مستمر لدول المنطقة، وتهديد واضح بأن هذه الدول إن لم تحاكم قادة حركة حماس أو تطردهم من أرضها، سوف تقوم إسرائيل بنفسها بما تعتبره واجبًا. لا تتوقف أحاديث نتنياهو العدوانية عند هذا الحد، بل تمتد إلى التأكيد على هيمنة على الشرق الأوسط، وخطاب تهديد موجه إلى المنطقة كلها، واستدعاء خلفيات دينية ووعود توراتية مسيحانية بما يسميها "إسرائيل الكبرى"، ومعلنًا بوضوح أنه "لن تكون هناك دولة فلسطينية مطلقًا"، بحسب خطابه في مستوطنة معاليه أدوميم 11 سبتمبر الجاري.
ويفيد كبير الباحثين في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يوئيل جوزانسكي، في مقاله في موقع المعهد، بأن إسرائيل اختارت إدارة المخاطر عبر تحقيق ردع فوري، وتغيير الواقع مقابل أثمان محتملة قد تنشأ عن أزمة مستمرّة. إلا أنها وجدت نفسها أمام أزمة سياسية ودبلوماسية قائمة، ونجاح لم يتحقق. ويرى جوزانسكي أن نتائج الضربة الإسرائيلية التي نفذت ضد وفد "حماس" التفاوضي في الدوحة لا تؤثر في مفاوضات إطلاق الأسرى فحسب، ولا قدرات "حماس" على الاستمرار في الأسلوب نفسه، بل أصابت أيضًا دور قطر، ومكانتها وسيطًا أساسيًا، بحكم أنها الأقرب لحركة حماس، وتأثيرها عليها في المفاوضات. وهذا يعني أن أحد أهداف العدوان الرئيسة كان دور الوساطة القطري، وكونها "لاعبًا أساسيا". ومن هذا المنطلق، يذكر جوزانسكي ما قد يفضي، في النهاية، إلى تخفيف ردود الفعل العربية؛ مثل احتمال أن يؤدّي العدوان الصهيوني إلى انتقال ثقل المفاوضات إلى مصر، حتى وإن لم تمتلك النفوذ نفسه الذي تمتلكه قطر على "حماس". لكن انتقال الثقل على هذا النحو كان محتملًا أكثر لو نجحت عملية الاغتيال. أما مدير المعهد، تامير هايمان، فيرى أن نجاح العملية لو تم، كان سينقل ثقل الوفد الفلسطيني المفاوض من الدوحة إلى غزّة حيث قيادة أقل خبرة وأكثر إنهاكًا، بعد اغتيال أكثر القادة هناك، حسب رأيه، ما قد يزيد من تشدّد الحركة، لكنه تشدّد مؤقتٌ كان سيتغيّر على المدى البعيد.
تحفّظ بعض قيادات الأجهزة الأمنية في الكيان الصهيوني
بشأن العدوان على قطر لم يكن اعتراضًا من حيث المبدأ..
بل على توقيته
ويعتقد جوزانسكي، في مقال في "يديعوت أحرونوت"، أن أحد العوامل التي يمكن أن تخفّف رود الفعل العربية، موقف بعض العواصم العربية السلبي تجاه حركة حماس، واعتبارها، حسب لفظه، مصدر مشكلة أو تهديد، فضلًا عن تحفّظ هذه العواصم العربية على السياسة الخارجية القطرية، على اعتبار أنها سياسة مغامِرة أضرّت بمصالح قطر نفسها في نهاية الأمر. لكنه يرى، في الوقت نفسه، أن تلك الدول، رغم تنافسها مع قطر، ستكون ملزمةً بالتضامن معها، ولو شكليًا، ما قد يؤدّي إلى إدانة إسرائيل، وربما اتخاذ إجراءاتٍ تزيد من الضغوط عليها، أكبر مما تتعرّض إليه فعليًا على المستوى العالمي.
كانت إسرائيل مدركة أن عدوانها ضد الوسيط القطري سيؤثر على مصير أسراها، ويقوّض قنوات الوساطة التي تبذلها قطر، ويصعب على تل أبيب لاحقًا فرص تحقيق مكاسب تفاوضية مستقبلية، ما يدلّ على أنها كانت مستعدّة لدفع أثمان دبلوماسية قصيرة الأجل مقابل التخلص من قيادة "حماس". وكانت تراهن، كما يقول، هرئيل، على موازين المصالح الإقليمية والدولية، وخصوصًا الروابط الأمنية والاقتصادية مع الغرب، وبعض الدول العربية لتخفيف ردود الفعل العربي، وجعلها مقصورةً على الإدانة الرمزية الخطابية، مهما كانت شدّة التوصيف، وأن يتم التركيز على ممارسة الضغوط الحقوقية والسياسية، وهي ضغوط لن تغير قواعد اللعبة على الأرض في المدى المنظور. غير أن الأزمة التي تواجهها إسرائيل حاليًا تتمثل في أنها تجد نفسها مضطرة إلى مواجهة حسابات الخسارة، مهما انخفض سقفها، ودفع أثمان لم تكن تمانع في تحملها لو نجحت عملية الاغتيال، ما يعني أنها تواجه خسارة مضاعفة، ويحول الضربة عبئًا سياسيًا، بعد أن كانت تعتبرها انتصارًا أمنيًا في الساعات الأولى بعد العدوان.
أمام النظام العربي والإسلامي بدائل كثيرة
من دون الذهاب إلى الحرب
وعلى المستوى السياسي والبحثي، تدرك إسرائيل عواقب اعتدائها على الدوحة بغرض تنفيذ الاغتيال؛ وتعتقد أن دول الخليج، حتى غير المتعاطفة مع قطر أو حركة حماس، ستشعر بالقلق من هذا السلوك الإسرائيلي الذي يعرّض العلاقات القائمة أو المحتملة مع بعض الدول العربية للضغوط والتقييد، وربما الدفع نحو تقليص تلك الدول علاقاتها مع إسرائيل لشعورها برغبة إسرائيل في الهيمنة الإقليمية.
يلفت الانتباه هنا أن خطاب إسرائيليين كثيرين، بمن فيهم بعض عائلات الأسرى الإسرائيليين في غزّة، ممن ينضوون تحت مجموعة تسمّى "منتدى الأمل"، والتي تتكوّن من ستٍّ من عائلات الأسرى، تأخذ خطّ الضغط العسكري نفسه وسيلة للإفراج عن الأسرى الذي تتبنّاه الحكومة، يعتبر الدوحة "عاصمة للإرهاب"، وينظر إلى العدوان الإسرائيلي أنه "الطريقة الوحيدة التي ستحقّق الانتصار، وتعيد الأسرى"، بحسب ما تضمّنه بيان تأييدها العدوان الإسرائيلي، وهو حديثٌ ينسجم تمامًا مع الموقف الرسمي والمعارض في آن، حيث أصبحت إسرائيل، في الشهور الأخيرة، تنظر إلى قطر على أنها جزء من المشكلة، لا الحل. أكثر من ذلك، أن تحفظ بعض قيادات الأجهزة الأمنية في الكيان الصهيوني لم يكن اعتراضًا على العدوان من حيث المبدأ، بل على توقيته، وفق ما أوردته "يديعوت أحرونوت" في 11 سبتمبر الجاري، ما يعني أن المنطقة باتت أمام عدوٍّ لا يتحرّك أحد فيه بلغة عاقلة تترك مجالًا لأي سلام حقيقي.
تخشى إسرائيل أن تتحوّل المواجهة الدبلوماسية الحالية
عبئًا استراتيجيًا طويل الأمد
الخطاب المتغطرس الذي تستخدمه إسرائيل على لسان رئيس حكومتها، ووزرائها، وصولًا إلى التهديد الواضح والمباشر الذي وجهه ممثلها في مجلس الأمن إلى دولة قطر بأن كيانه لن يتوقف عن استهداف قادة "حماس"، وأن على الدوحة أن تختار بين الوقوف في صفّ الإرهاب أو العالم الحر، يفرض على الأنظمة العربية والإسلامية في القمّة المنتظرة إعادة النظر في مواقفها، وأن تتحرّك من حالة السكون والتخاذل، وتدفعها إلى تغيير نهجها من الاكتفاء بالكلمات، والتنديد، إلى اتخاذ خطواتٍ عملية فاعلة، لا تحفظ لهذه الأنظمة كرامتها فحسب، بل مستقبلها، وحياتها، وجدارتها في الاستمرار في حكم شعوبها التي أصبحت مجمعة على أن المنطقة لن ترى خيرًا طالما استمرت إسرائيل في الوجود.
والحقيقة أن أمام النظام العربي والإسلامي بدائل كثيرة من دون الذهاب إلى الحرب: بداية من وقف التعاون الاقتصادي والتجاري مع الكيان الصهيوني، وإنهاء التنسيق الأمني والتعاون الاستخباري بين دول عربية وإسرائيل، وتفعيل المقاطعة وتبنّيها رسميًا، وقطع العلاقات الدبلوماسية، وعقد اتفاقيات دفاع مشترك وتفعيل القديم منها، وتبنّي خطاب داعم لحق الشعب الفلسطيني في المقاومة للتخلص من الاحتلال، وصولًا إلى استعدادٍ جادٍّ لحربٍ بات الجميع يدرك أنها أصبحت أقرب من أي وقت مضى، وقبل ذلك كله، مصالحة داخلية مع الشعوب.. هذه الخطوات وغيرها يمكن أن تشكّل رادعًا مبدئيًا للكيان الصهيوني. هذه الإجراءات كفيلة بتشكيل رادع مبدئي، لكنها مرهونة بمدى جدّية الأنظمة في حماية مستقبل شعوبها، والأمن القومي للمنطقة، غير أن التجارب السابقة للنظام العربي في أحداثٍ مماثلة تجعل التفاؤل محدودًا، وترجّح أن العدوان الإسرائيلي سيمرّ كما مرت أحداثٌ جسامٌ من قبل، وحينها تصبح إسرائيل محقّة في استبعادها أن تقدم الدول العربية والإسلامية على إجراءات عقابية شاملة وفورية ضد إسرائيل.
وخلاصة القول إن إسرائيل، وإن كانت تتوقّع قمة عربية وإسلامية قوية الخطاب، وربما تتضمّن إجراءات رمزية وقانونية، فإنها تستبعد انقلابًا عمليًا في قواعد التعاون الإقليمي. لكنها تخشى، في الوقت نفسه، وبدرجة أقلّ، أن تتحوّل المواجهة الدبلوماسية الحالية عبئًا استراتيجيًا طويل الأمد.