يشهد إقليم الفاشر بدارفور والسودان عمومًا مرحلة جديدة من التصعيد الدموي، مع إعلان نائب قائد الجيش الفريق شمس الدين كباشي أن لا تفاوض مع قوات "الدعم السريع"، وأن الحرب ستستمر حتى "استسلام الخونة والمارقين"، مشيرًا إلى قرب انطلاق عمليات عسكرية واسعة لتحرير ولايات دارفور، على أن تكون مدينة الأبيض في شمال كردفان مركزًا لهذه العمليات.
هذه التصريحات تزامنت مع معارك شرسة على أطراف مدينة الفاشر، التي تحولت إلى رمز لصمود الجيش وملاذ أخير لعشرات الآلاف من المدنيين المحاصرين وسط ظروف إنسانية بالغة القسوة.
الفاشر تحت النار
الهجوم العنيف الذي شنته قوات "الدعم السريع" مؤخرًا على المحور الجنوبي لمدينة الفاشر كشف مجددًا أن هذه القوة تراهن على السيطرة الكاملة على دارفور كمنطلق لفرض أمر واقع سياسي وعسكري. لكن الثمن، كما جرت العادة، كان دماء المدنيين. فقبل الهجوم، قصفت "الدعم السريع" مخيم أبو شوك للنازحين والمستشفى "السعودي"، مستخدمة المدفعية الثقيلة والطائرات المسيّرة، ما أدى إلى سقوط ضحايا وتدمير مرافق حيوية يعتمد عليها آلاف الفقراء والنازحين.
ورغم تمكن الجيش والقوات المشتركة من صد الهجوم وإجبار المهاجمين على التراجع، إلا أن القصف المتبادل أوقع خسائر فادحة في صفوف المدنيين، وزاد من تردي الأوضاع الإنسانية.
قصف واستهداف ممنهج للمدنيين
ما يثير القلق أن "الدعم السريع" باتت تعتمد تكتيكًا يقوم على استهداف الأسواق والمستشفيات والمخيمات كوسيلة للضغط على الجيش وإضعاف معنوياته. الهجوم الأخير على سوق المواشي وأحياء جنوبية في الفاشر يندرج ضمن هذا النهج، حيث شهدت تلك المناطق انفجارات عنيفة وتصاعد دخان كثيف بعد غارات جوية متبادلة. والنتيجة المباشرة كانت دفع السكان إلى مزيد من النزوح، في وقت لم تعد فيه طرق الإمداد سالكة ولا المساعدات الإنسانية متاحة.
أزمة إنسانية خانقة
منذ مايو 2024، تعيش الفاشر تحت حصار خانق فرضته قوات "الدعم السريع"، وهو ما أدى إلى ندرة المواد الغذائية وارتفاع أسعارها بشكل جنوني، إضافة إلى انعدام شبه كامل للأدوية المنقذة للحياة.
"شبكة أطباء السودان" حذرت مؤخرًا من أن نقص الأدوية وغياب الكوادر الطبية وانهيار الخدمات الصحية يهدد بكارثة إنسانية غير مسبوقة، حيث يواجه السكان خطر الموت البطيء جوعًا أو مرضًا أو تحت القصف.
الجيش يعلن خطة هجومية
في المقابل، يحاول الجيش السوداني استعادة زمام المبادرة. فإلى جانب صد هجمات الفاشر، كشف الفريق كباشي عن دخول "سلاح جديد ونوعي" إلى مدينة الأبيض، استعدادًا لعمليات واسعة تهدف إلى استعادة مدن الخوي والنهود في غرب كردفان والدبيبات في جنوب كردفان، كمحطات تمهّد للتقدم نحو الفاشر وعمق دارفور. وأكد كباشي أن الهدف ليس فقط طرد "الدعم السريع" من هذه المناطق، بل أيضًا تطبيق قرار مجلس السيادة بتفريغ المدن من المسلحين ووضع حد "للتفلتات والفوضى".
الدعم السريع يرد
لم تتأخر "الدعم السريع" في محاولة إظهار قدرتها على الصمود. فقد أعلنت إسقاط طائرة مسيّرة تابعة للجيش في مرشنق بولاية جنوب دارفور، بعد أن قصفت الأخيرة سوق منواشي وأوقعت قتلى وجرحى بينهم امرأة وعامل في السوق. هذه الحوادث تكشف أن الحرب تحولت إلى مواجهة مسيّرات ومدفعية، سلاحها الأساسي المدنيون الذين يجدون أنفسهم دائمًا في مرمى النيران.
دارفور بين حرب بلا أفق ومعاناة بلا نهاية
الوضع في دارفور يعكس مأساة مركبة: قوات "الدعم السريع" تسعى لفرض سيطرتها عبر حصار وتجويع المدنيين واستهداف البنية التحتية، فيما يرد الجيش بالقصف الجوي والمدفعي الذي يزيد من معاناة السكان. وبين الطرفين يقف مئات الآلاف من النازحين واللاجئين الذين فقدوا الأمن والغذاء والدواء، وباتوا أسرى حرب لا يملكون فيها خيارًا سوى انتظار المجهول.
وفي الختام فالتصعيد الأخير يعيد إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا: إلى متى سيدفع المدنيون ثمن صراع عسكري بلا أفق سياسي؟
"الدعم السريع" تتحمل المسؤولية الأكبر عن الكارثة الإنسانية الجارية، من خلال استهداف الأسواق والمستشفيات والمخيمات، وتحويل المدن إلى ساحات حصار وتجويع.
لكن استمرار الحرب دون أفق تفاوضي، وتمسك الجيش بالخيار العسكري وحده، يعني أن دارفور تتجه إلى مرحلة أكثر دموية، حيث لن يكون هناك منتصر حقيقي سوى الخراب.