في مشهد يتكرر مع كل مأساة يعيشها المصريون في الداخل والخارج، أعلنت وزارة الخارجية التابعة لحكومة قائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي مساء يوم الإثنين، 29 يوليو 2025، وبعد مرور ثلاثة أيام كاملة من غرق قارب للهجرة غير النظامية قبالة سواحل مدينة طبرق الليبية، بدء إجراءات نقل جثامين الضحايا المصريين إلى البلاد، بالتنسيق مع السلطات الليبية، وترحيل الناجين بعد التحقيق معهم.

هذا الإعلان جاء متأخرًا بشكل صارخ، ما يثير علامات استفهام عديدة حول كفاءة الجهات الدبلوماسية ومدى اهتمام النظام المصري بأرواح مواطنيه، خاصة من فئة الشباب المهمّشين الذين يفرّون من واقعهم الاقتصادي القاتم.

 

هروب من "الجحيم الاقتصادي": الهجرة غير النظامية ملاذ المصريين الوحيد

وفقًا لتقارير محلية ليبية، فإن القارب الذي غرق فجر يوم الجمعة 26 يوليو 2025 كان يقل نحو 80 شابًا مصريًا، معظمهم من محافظات الدلتا وصعيد مصر، وعلى رأسهم الفيوم، سوهاج، والمنيا، وهي مناطق تشهد نسب بطالة وفقر تجاوزت 35% بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في آخر تحديث له عام 2024.

ورغم القمع الإعلامي، تسربت صور وفيديوهات لجثامين عشرات الشبان المصريين ملقاة على الشاطئ الليبي، في مشهد مروّع يعكس اليأس الذي يدفعهم إلى ركوب البحر، معرضين للموت، بحثًا عن "فرصة حياة" لم تعد متاحة في عهد السيسي.

 

من طبرق إلى الموت: تفاصيل المأساة في ظل صمت إعلامي رسمي

رغم أن الحادث وقع فجر الجمعة، إلا أن الإعلام المصري الرسمي لم يتطرق للخبر حتى مساء الإثنين، بعد إعلان الخارجية.

تقارير ليبية غير رسمية أكدت أن القارب انطلق من منطقة “البيضاء” شرقي ليبيا، متجهًا إلى أوروبا، قبل أن ينقلب بسبب الحمولة الزائدة وسوء الأحوال الجوية.

الناجون الذين بلغ عددهم قرابة 15 شخصًا فقط، يخضعون لتحقيقات لدى الأجهزة الأمنية الليبية. وقد أظهرت شهاداتهم المروعة أنهم دفعوا بين 70 و100 ألف جنيه مصري للمهربين، في رحلة بدأت من قرى فقيرة في مصر وانتهت بالموت على سواحل ليبيا.

 

الدبلوماسية الغائبة.. أين كانت وزارة الخارجية؟

الغريب في الموقف أن وزارة الخارجية لم تبادر بأي تصريح أو متابعة للحادث فور وقوعه، على الرغم من أن الحكومة الليبية أعلنت الحادث بعد ساعات من غرق القارب.

تجاهل الخارجية طيلة ثلاثة أيام أعاد للأذهان مشهد غرق مركب رشيد عام 2016، والذي راح ضحيته أكثر من 200 شاب مصري، في ظل صمت الدولة وقتها أيضًا.

ولا يزال السؤال مطروحًا: هل يُعد المصري خارج بلاده مواطنًا له قيمة لدى نظام السيسي؟، خاصة إذا كان ينتمي للطبقات المهمّشة الفقيرة التي لا تجد فرصة عمل ولا كرامة في الداخل.


 

الأسباب الحقيقية للهروب: نظام فاشل يقود شباب مصر إلى البحر

بحسب تقرير "مرصد الهجرة المصري" الصادر في فبراير 2025، فإن ما يزيد عن 42% من طلبات الهجرة غير النظامية التي تم ضبطها في دول جنوب أوروبا العام الماضي كانت لشبان مصريين، مما يجعل مصر الأولى عربيًا في معدلات الهجرة غير النظامية.

ويؤكد التقرير أن الأسباب المباشرة تعود إلى "الانسداد السياسي، وانهيار منظومة التعليم والصحة، وارتفاع الأسعار بنسبة تتجاوز 120% منذ 2022، مع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب الجامعي إلى أكثر من 40%."

في ظل هذه المؤشرات، لا عجب أن يتحول البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة مفتوحة لجيل بأكمله، اختار الهروب على البقاء في وطن لا يمنحه شيئًا سوى القهر والفقر.

 

السياسات الأمنية لا تحمي المواطن بل تلاحقه

في تعليق له على الحادث، قال السفير الأسبق إبراهيم يسري (في مقابلة سابقة قبل وفاته): "النظام العسكري في مصر يُحكم قبضته على الشعب، لكن دون أن يقدّم له شيئًا. الدبلوماسية المصرية اليوم مجرد واجهة أمنية، لا تهتم إلا بحماية رأس السلطة، لا كرامة المواطن."

نفس الخطاب يتكرّر من سياسيين في المعارضة بالخارج، مثل أيمن نور الذي كتب عبر حسابه على “إكس: "أبناء مصر يُدفنون في شواطئ ليبيا ولا تتحرك الدولة إلا عندما يُطالب الحلفاء بالتدخل الأمني. لا كرامة للمصري إلا إذا وافق السيسي على بقائها!"

 

أين الدولة من جريمة "التهريب المنظّم"؟

تتكرر حوادث الهجرة غير النظامية دون وجود أي جهد حقيقي من السلطات المصرية لملاحقة شبكات التهريب المنظمة، التي تعمل من قلب قرى مصرية معروفة.

نشطاء حقوقيون، من بينهم المحامي خالد علي، تساءلوا: "هل نرى تحقيقًا رسميًا؟ هل تُحاسب مافيات التهريب؟ أم أن الصمت هو التواطؤ؟"
في ظل عدم وجود ردع، يُتهم النظام بغضّ الطرف، بل وبتحقيق استفادة غير مباشرة من هروب آلاف الشباب، مما يخفف من التكدس والاحتقان السياسي الداخلي.

 

موت على الهامش في ظل سلطة بلا ضمير

حادثة غرق شباب مصر قبالة سواحل طبرق لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، طالما بقيت السياسات القائمة على القمع والتهميش واللامبالاة تحكم البلاد.
في بلد فقد فيه المواطن ثقته في مستقبله، وفي دولة لا تتحرك إلا بعد مرور ثلاثة أيام على الكارثة، يبقى البحر هو السبيل الوحيد، حتى وإن كان الموعد فيه مع الموت لا النجاة.

 

الأسئلة التي تنتظر إجابة:

  • لماذا تأخرت وزارة الخارجية في التحرك؟
  • ما عدد الضحايا الحقيقي؟ ولماذا التعتيم الإعلامي؟
  • من يفتح التحقيق في شبكات التهريب؟
  • ومتى يشعر المصري أن لحياته كرامة؟

كلها أسئلة لن تُجاب، طالما ظل الحاكم هو نفسه الذي جعل البحر أكثر عدلًا من البرّ.