منذ وصول عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، تصدرت الانتخابات المصرية عناوين الانتقادات المتعلقة بسلوكيات غير ديمقراطية، بدءًا من التلاعب بالأرقام وتهميش المنافسين، وصولاً إلى حشد ناخبين بطريقة منظّمة وشراء الأصوات. وكأن العملية الانتخابية باتت جزءًا من آلة "شرعية مزيفة" تُديرها السلطات.

ومنذ عام 2014، باتت الانتخابات  في مصر رمزًا لاستمرارية السلطة بدلًا من استحقاق انتخابي ديمقراطي. وعلى الرغم من حملات الحشد الإعلامي الرسمية، ثمة مشاهد مختلفة تتكشف: عزوف شعبي ملحوظ، أرقام مشاركة تبدو غير منطقية، واتهامات متكررة بتلاعب النظام بأعداد الناخبين لضمان نسب مشاركة مرتفعة مزيفة.

 

 ضعف الإقبال المتوقع: جمهور لا يكترث

رغم جهود النظام لاستنهاض المشاركة عبر تعطيل الدراسة والحملات الدينية، إلا أن نسبة المشاركة لا تعبر عن حيوية سياسية، بل عن حملة دعائية لاستباق انتقادات الداخل والخارج. بحسب تقارير رسمية، قُدرت المشاركة في انتخابات ٢٠١٤ بنسبة ٤٧.٥٪ فقط، وهو مؤشر على عزوف شعبي واضح  .

في انتخابات ٢٠٢٣، واجه النظام مجددًا تحديًا: حضور محدود للمواطنين، ما دفع النظام إلى استخدام وسائل ضغط وشراء أصوات لتفادي فشل إظهار نسب مرتفعة زُفت عبر الإعلام الرسمي  .

 

التزوير ليس داخل الصناديق فقط

أ. التحكم في هيئة الانتخابات

التعديلات التشريعية بعد عام ٢٠١٧ منحت السيسي الحق في تعيين رؤساء الهيئة الوطنية للانتخابات، الأمر الذي ضاعف الشكوك حول استقلاليتها وقدرتها على إدارة انتخابات نزيهة  .

ب. تزوير العقول كثقافة

الباحث سيف الدين عبد الفتاح يرى أن التزوير في عهد السيسي تجاوز التلاعب بالأوراق، ليصبح ثقافة منتشرة، يشارك فيها رجال الدين والقانون والمثقفون لتزييف الوعي السياسي للمواطن المصري  .

ج. تزوير الأصوات الخارجية

المصريون المقيمون بالخارج وثّقوا حالات صوتت باسمهم رغم أنهم قاطعوا الانتخابات، مما أثار دعوات للتحقيق في استغلال أرقامهم الوطنية من قبل جهات مجهولة  .

 

 شراء وحشد الأصوات: كيف تُدار المسرحية؟

أ. الرشاوى المباشرة

شهدت الانتخابات الماضية توزيع مبالغ مالية تتراوح بين ٢٠٠ إلى ٣٠٠ جنيه مصري لكل ناخب لتشجيعه على الحضور، حيث اعترف عدد من الناخبين أنهم تلقوا هذه الأموال مقابل ظهورهم أمام اللجان، تحت رقابة حثيثة لمعرفة ما إذا كانت أيديهم تحمل حبر التصويت  .

ب. الطوابير الدوّارة والميكروبايس

في القرى والمناطق الشعبية، تقارير عديدة عن خطة حزب مستقبل وطن لتوجيه مواطنين للاستمرار في التصويت عبر لجان مختلفة باسمه، مع نقلهم عبر "طوابير دوارة" لتضخيم حجم المشاركة، دون رقابة حقيقية على هؤلاء الأشخاص  .

ج. حشد الناخبين عبر الجمعيات الحكومية

هيئات رسمية وجمعيات مدنية موالية للنظام، وكذلك موظفو الدولة، تلقوا تعليمات بالمشاركة، وسُوّقت لهم مبالغ رمزية، والاستخدام المكثف لبرامج "تكافل وكرامة" لاستهداف الفقراء مقابل توجيه أصواتهم لصالح حزب مستقبل وطن

د. الخوف والترهيب

تمّت ممارسة ضغوط على موظفين وموظفات بخصم الرواتب، بل وتهديدهم بفقدان الدعم الاجتماعي إذا لم يشاركوا في الانتخابات. وبحسب تقارير، السلطات الأمنية كانت تعد قوائم بأسماء من عليهم حضور لمنع التورط في الانقطاع عن التصويت  .

 

شهادات ميدانية وتقارير نيابية

دراسة ميدانية نفذت أبحاثًا في أحياء القاهرة وعينة من ٦٠٠ شخص: أكثر من ٦٦٪ منهم أقروا بتسليم بطاقاتهم الشخصية لجهات ترتبط بالأجهزة الأمنية مقابل توجيه تصويتهم. وهناك من حصد ١٠٠ بطاقة هوية وأرسلها إلى مسؤولي محلية دون أن يتلقى أجرًا  .

تقرير "Egyptian Front for Human Rights" وثّق تنسيقًا جغرافيًا بين الشرطة، حزب "مستقبل وطن" والجمعيات ذات الصلة للنظام؛ تهدف إلى تجهيز قوائم الناخبين وفصلهم تحضيرًا لمهام تزوير منظمة  .

إطار أوسع: سياقات عرفية من زمن مبارك إلى السيسي

النظم السابقة، منذ عهد مبارك، اعتمدت على الرشوة والتحريض الإعلامي لتمرير الانتخابات. حركة الإخوان وحتى الكفة الشعبية آنذاك اعتبروا نسبة المشاركة أقل من ٣٠٪ في بعض المناطق، وسط تهم بتزوير وإقصاء مرشحين المعارضة  .

 نفس الأساليب استعادت من تبعاتها في انتخابات السيسي الحالية، لكن باتت بنسق أكثر تنظيماً وإدماجاً في مؤسسات الدولة الإعلامية والقضائية والتعليمية  .

 

سيناريوهات النظام في ظل قلة الإقبال

من المتوقع أن تكون نسبة المشاركة في أي انتخابات مقبلة منخفضة، ربما أقل من 05٪. في هذه الحالة، يزيد النظام من اعتماد آليات:

استئجار "مقاولين انتخابيين" لتوزيع الرشاوى وجمع بطاقات الناخبين وضمان حضورهم؛

تنظيم تنقلات من أماكن بعيدة إلى اللجان عبر وسائط مدعومة؛

إجبار الفئات المستهدفة (الموظفين، الفقراء، المتقاعدين) على الحضور وتحميلهم مسؤولية إثبات الحضور بالإبرة الفسفورية والمنشور الإعلامي الداخلي  .

 

 تأثير اختراق التزوير على المشهد الانتخابي

أولاً: التشكيك في الشرعية

الأرقام المزورة، رغم تسويقها إعلاميًا بأنها "أعلى مشاركة على الإطلاق"، لا تمثل ثمة مصداقية خارجية، بل تُعزز فكرة انتخاب مصطنع ليس له أساس شعبي.

ثانيًا: هيمنة النظام على العقل الجمعي

الربط بين التزوير والخشية من المعارضة وتزييف وعي الجماهير، يشير إلى أن السيسي قد حدد مسبقًا خصومة سياسية وشعبية، كما يقول عبد الفتاح، فحوّل الانتخابات إلى طقس رسمي لحفظ النظام لا وسيلة لاختيار سياسي واقعي  .

ثالثًا: التفريغ السياسي لسلوك المواطنين

الضغط المالي والترهيب الإعلامي يُستخدمان لضخ قواعد انتخابية وهمية، تستند إلى حضور شكلي لا تأثير حقيقي، فتتحول الانتخابات إلى برنامج "إظهار اللحظة"، لا رأي الشعب الحر.

وفي النهاية يمكن القول إن النظام المصري يعكس اليوم استراتيجية مزدوجة: عبر إظهار نسب مشاركة مغلوطة لمحاولة منح الانتخابات "شرعية"؛ واستخدام القوة والمال لضمان هذه الشرعية الشكلية بالرغم من غياب الإيمان الشعبي بالمنافسة.

وبينما تزداد حالة العزوف العلني من الشعب، فإن النظام يستعد مسبقًا عبر خزائن الأموال والمنظمات الحزبية والإعلامية لحشد المشهد الانتخابي لصالحه، بغرض تقديم صورة مضللة عن الواقع.

ومنذ الانقلاب العسكري  بقيت الانتخابات مسرحية صورية تدار من أعلى، فإن الأمل في استعادة أي إرادة شعبية حقيقية سيبقى بإرادة حديدية ربما ستنفجر قريبا وتلتهم هذا النظام الفاسد.