شهد إعلان شركة "مدن العقارية" الإماراتية عن أسعار وحدات مشروعها السكني الفاخر في رأس الحكمة تفاعلًا واسعًا، حيث تناقلت الأرقام الرسمية التي تدهش المصريين بسبب ارتفاعها الجنوني مقارنة بمستوى دخلهم، وتفتح الباب واسعًا أمام تساؤلات مشروعة حول دور النظام الحالي بقيادة قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي في تحويل الشواطئ المصرية إلى سلعة بيد المستثمر الأجنبي، بينما يُترك المواطن المصري في مواجهة واقع اقتصادي قاسٍ لا يعرف الرحمة.

الأسعار التي كشفت عنها الشركة فاقت كل التوقعات، حيث بلغ سعر الشقة ذات الغرفة الواحدة 15.9 مليون جنيه، بينما وصل سعر الشقة بثلاث غرف إلى 30.85 مليون جنيه.

أما الفيلات، فقد بلغ سعر الفيلا ذات السبع غرف نحو 276.8 مليون جنيه، وهو رقم لا يُصدق في بلد يعيش أكثر من 60% من سكانه تحت خط الفقر، حسب تقارير البنك الدولي لعام 2023.

من يملك الأرض؟ ومن يستفيد؟

من الذي باع الأرض؟

ومن الذي يستفيد من هذه الصفقات؟

وهل تذهب أرباح هذا المشروع إلى ميزانية الدولة المصرية أم إلى حسابات شركات مجهولة الهوية؟

صفقة رأس الحكمة، التي تم الإعلان عنها في فبراير 2024، أثارت منذ البداية جدلاً واسعًا، حيث تم تسريب معلومات عن أن المشروع تم توقيعه بنظام الشراكة بين صندوق مصر السيادي، التابع مباشرة لرئاسة الجمهورية، وشركة "إيجل هيلز" الإماراتية، ثم لاحقًا شركة "مدن".

لكن حتى الآن، لا توجد شفافية حول نسب توزيع الأرباح، أو العائد الفعلي للدولة، أو تفاصيل العقد، رغم أن الأرض التي أُقيم عليها المشروع تعد من أجمل المناطق الطبيعية في الساحل الشمالي الغربي، وتُقدر قيمتها بعشرات المليارات من الجنيهات.

 

حكومة بلا كفاءة ولا سيادة

يرى محللون أن ما يحدث في رأس الحكمة ليس إلا تجسيدًا لسياسات "التفريط في أصول الدولة" التي اتبعها السيسي منذ استيلائه على الحكم في يوليو 2013.

فبدلًا من أن تستثمر حكومة الانقلاب المصرية بنفسها في هذه المشروعات الساحلية وتحتفظ بعائدها لصالح خزينة الدولة والمواطنين، فإنها تختار بيع الأراضي أو الدخول في شراكات تفتقر للشفافية، مع تحميل المواطنين أعباء الدين العام وارتفاع الأسعار.

في عام 2024 وحده، ارتفع الدين الخارجي لمصر إلى أكثر من 172 مليار دولار، بحسب بيانات البنك المركزي المصري.

وفي ظل هذه الظروف، يصبح بيع الأراضي للأجانب أو "منحهم" حق الانتفاع طويل الأمد وسيلة هروب من الإفلاس، على حساب مستقبل الأجيال القادمة.

كيف يمكن تفسير أن تبدأ أسعار الشقق في رأس الحكمة من 15.9 مليون جنيه، في حين أن متوسط دخل المواطن المصري لا يتجاوز 5 آلاف جنيه شهريًا (أي نحو 60 ألف جنيه سنويًا)؟

حتى لو ادخر الزوجان كامل دخلهما المشترك دون أن يأكلا أو يشربا أو ينجبا أطفالًا، فلن يتمكنا من شراء شقة صغيرة في هذا المشروع قبل عام 2084، وفقًا لحسابات بسيطة أثارت سخرية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه الفجوة الهائلة بين الواقع المعيشي للمواطنين ومشروعات "الرفاهية" التي يتم تسويقها باعتبارها إنجازات وطنية، تعكس نمط الحكم في عهد السيسي: مشاريع دعائية، بتكلفة هائلة، لا تخدم سوى شريحة ضئيلة من المجتمع، غالبًا من الطبقة العليا أو الأجانب.

 

جدية الحجز: مليون جنيه فقط… للنية!

الأكثر استفزازًا، بحسب ما تداوله رواد مواقع التواصل، أن شركة "مدن" تشترط دفع مليون جنيه كـ"جدية حجز"، فقط لكي يسمح لك النظام أن تحلم بأن تمتلك وحدة في رأس الحكمة.

هذه السياسة القائمة على "الفرز الطبقي" تُقصي المواطن العادي من المشهد تمامًا، وتعيد إنتاج نموذج "الجيتوهات الساحلية" التي لا مكان فيها للفقراء أو حتى للطبقة الوسطى التي باتت شبه منقرضة في عهد السيسي.

 

السيسي يفرّط في الأرض لصالح أمراء الخليج

النائب السابق أحمد الطنطاوي وصف المشروع في تصريح سابق بأنه "جريمة تفريط في الأرض تحت غطاء التنمية".

وأضاف: "لا توجد دولة في العالم تبيع سواحلها الاستراتيجية للأجانب بهذه الطريقة الغامضة، إلا إذا كانت تحت ضغط الإفلاس أو تحت حكم لا يرى المواطن إلا عبئًا".

أما السياسي خالد داوود فكتب عبر صفحته الرسمية: "أي مشروع لا يخدم المواطن المصري أولًا، هو مشروع مشبوه، رأس الحكمة أصبحت نموذجًا للفساد المنظّم، لا للتنمية".

وفي السياق نفسه، تساءل الصحفي المعارض سامي كمال الدين: "أين عوائد المشروعات الكبرى؟ من يستفيد من العاصمة الإدارية والعلمين الجديدة ورأس الحكمة؟ المواطن البسيط لا يرى إلا فواتير كهرباء ومياه وجباية متصاعدة".

 

إلى أين نذهب من هنا؟

مَن يراقب السياسات الاقتصادية في مصر خلال العقد الأخير، يدرك أن ما يجري ليس سوى تسليم بطيء لمقدّرات الدولة إلى أذرع خارجية، تحت شعارات براقة من قبيل "جذب الاستثمارات" أو "الشراكات الاستراتيجية".

لكن الحقيقة المؤلمة أن حكومة السيسي تفتقر إلى أي رؤية حقيقية للنمو الشامل، وتعتمد فقط على القروض وبيع الأصول من أجل البقاء في السلطة، فيما تتآكل الطبقة المتوسطة، ويُدفع بالفقراء إلى قاع لا نهاية له.

مشروع رأس الحكمة، بكل فخامته، ليس رمزًا للنهضة، بل مرآة لواقع اقتصادي واجتماعي مأزوم، تتلاشى فيه فرص الحياة الكريمة لصالح نخبة معزولة عن الشعب.

لم يعد من المقبول أن تُدار ثروات مصر وكأنها ملكية خاصة للسيسي ومقربيه، ولا أن تُسلّم أراضي البلاد لشركات أجنبية مقابل "أوهام تنموية" لا تعود بالنفع على الشعب.