بقلم: سمير حمدي

عندما وصلت قافلة الصمود إلى مناطق الغرب الليبي، تصوّر بعضهم أن سبب حفاوة الاستقبال حفاوة الشعب الليبي، وهذه حقيقة.
ولكن ما وراء هذه الحقيقة أن قيم الثورة الليبية ما زالت تحكم غرب ليبيا التي يصفها بعضهم بأنها منطقة مليشيات وفوضى.
في المقابل، وبمجرّد خط وهمي اجتازته القافلة داخل الدولة نفسها لتجد نفسها في مناطق الثورة المضادّة، حيث اختفت حفاوة الشعب الليبي، وكما بسحر ساحر، لم يعد هناك مجال للكرم وحسن المعاملة.
إنها مناطق سيطرة خليفة حفتر والثورة المضادّة.

لم يكن مفاجئاً موقف خليفة حفتر والحكومة التابعة له، فهي كيان فاقد للشرعية والاعتراف الدولي.
لا تُعرف لهذه الحكومة الموازية سياسة خارجية مستقلة، ولا مواقف واضحة من العدوان الصهيوني.
ولهذا جاء بيانها ضبابياً، ولم يكن فيه شيء واضح، عدا التنويه بموقف الخارجية المصرية، وكأنما حكومة الشرق الليبي المفترضة مجرّد مكتب قنصلي تابع للنظام المصري يتلقّى منه اوامره لضبط إيقاع مواقفه الدبلوماسية.

قد نتفهّم فكرة تجنّب استفزاز الجانب الصهيوني بالنسبة لنظام سياسي هو أدرى بضعفه العسكري وعجزه السياسي، ولكنك لن تجد مبرّراً واحداً يقنعك بسلامة الإجراءات التي اتخذها حفتر ضد قافلة الصمود، ولا وجود منطق يمكن من خلاله تفسير ما جرى للمتضامنين الدوليين في مطار القاهرة.
بل ما يثير السخرية أكثر ما حاولت الأذرع الإعلامية للنظام المصري أن تبرّر به سلوكه، باعتبار أن هذه القوافل تهدّد الأمن القومي المصري، وتستهدف البلد الآمن في محيط دولي مضطرب.
تبريرات إنشائية لا تقنع حتى الذين يردّدونها، فقوافل التضامن الدولي مع غزّة تضم ناشطين ملتزمين بقضايا إنسانية، ورغبتهم الأساسية هي الضغط على الاحتلال لفتح المعابر لمرور المعونات الإنسانية.
أما وقد تولى عبد الفتاح السيسي وحفتر كِبْر منع هؤلاء الناشطين واعتقال بعضهم وترهيب آخرين، فهذا يجعلهما شريكين في حصار القطاع، مهما حاولا التشبث بعلل واهية لا تقنع أحداً.

ينبغي أن يدرك المواطن العربي أن بينه وبين غزّة حواجز كثيرة، أولها وأهمها الأنظمة الحاكمة، ومن ورائها الكلمات الجوفاء التي يردّدها إعلاميو الأنظمة، بقولهم إن لا أحد يمنع الناس من دعم الشعب الفلسطيني في محنته، وإن هؤلاء النشطاء لا يتقنون غير رفع الشعارات لا أكثر.
وهكذا جاءت قوافل الصمود لتعرّي الأنظمة وتكشف زيف ادّعاءاتها، فالشعوب المتعطّشة لدعم إخوانها وجدت نفسها في حصار رسمي يمنعها من تقديم المساعدة، ويجبرها على الانضباط لقرارات أنظمةٍ اعتادت أن تعتبر الشعوب كَمّاً مُهملاً، لا قيمة له ولا رأي.

لم يكن الاحتلال وحدَه الذي يحاصر الفلسطينيين، بل كانت الأنظمة العربية المختلفة وبمقادير متفاوتة من أسباب الكوارث التي حلت على هذا الشعب المظلوم.
المشكلة أن هذه ترفع دوماً شعارات الدفاع عن القضية الفلسطينية، وأنها تتبنّى معاناته، ولكنها واقعاً كانت سبباً للمعاناة، بل، وفي أحيان كثيرة، رديفاً للمحتل وحليفاً له.
ولهذا فوجئ النشطاء الدوليون بالموقف المصري، وعبّر عنهم نائب رئيس الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان أليكسيس ديسواف بقوله "نريد إيصال رسالتنا بشأن غزّة، لسنا هنا لانتقاد السلطات المصرية. لكن على هذه السلطات أيضاً أن تدرك الصورة التي تروّجها للعالم".
وأوضح: "إنهم يروّجون صورة سلطة تقوم بالعمل القذر للإسرائيليين، بناءً على طلبهم، وتحديداً منع مسيرة تضامنية عند معبر رفح".
 

الحدود هي الجانب الخفي من مأساة هذه الأمة
   
كشفت قوافل المتضامنين العرب والدوليين عن حالة الحصار المضاعف الذي تعانيه غزّة، سطوة الاحتلال ووحشيته من جهة وحصار الأشقاء من جهة أخرى.

تجلّت حالة العجز التي تعانيها الشعوب أمام البوابات الحدودية، وفي الوقت نفسه، كشفت أن الحدود هي الجانب الخفي من مأساة هذه الأمة، وأن الذي وضعها كان مدركاً أنها ستتحوّل إلى أسوار تمنع كل نفس تحرّري.
وبعد مرور أكثر من مائة سنة على اتفاقية سايكس بيكو، تثبت الأحداث أن حالة التجزئة تحوّلت من مجرّد تقسيم جغرافي لمناطق نفوذ استعمارية إلى جزء من بنية الأنظمة القائمة التي تحوّلت بدورها إلى امتداد للنظام الكولونيالي الذي كان يهيمن على المنطقة.

احتلال الجيوش المعادية الأرضَ يسهُل أمام احتلال النفوس والإرادات، وهزيمة الجيوش تسهُل أمام الهزيمة النفسية والمعنوية.
كانت جذور ظاهرة التخاذل العربي الرسمي التي برزت بشكل واضح في حصار غزّة الحالي موجودة في التعاطي العربي الرسمي مع الشأن الفلسطيني، وهي لا تنحصر في مجرّد سقوط شعارات هذا النظام أو ذاك، وإنما أساساً في انسداد الطريق أمام النظام العربي الذي فقد فعاليته، وأصبح مجرّد تابع للقوى التي تصنع الأحداث في المنطقة، أو هو في أحسن الأحوال مجرّد متفرّج، لا يتقن غير فرض الصمت على الشعوب ليواصل الاحتلال مجازره من دون إزعاج.