بقلم : إياد الدليمى
 

ما إن بدأت الحرب الإسرائيلية على إيران (فجر الجمعة الماضي)، حتى استعادت الأسواق العراقية سيرتها الأولى مع الحروب، فقد هبّ المواطنون لتخزين ما يمكن تخزينه من موادَ غذائيةٍ وسلع، فهم أبناء حروبٍ عديدة، وذاكرتهم تحفظ مآسي ومشاهد عديدة جرّتها عليهم عقودٌ متواصلةٌ من الحروب والحصار.
ورغم أن الحرب الحالية، يُفترض (على أقلّ تقدير) أن العراق ليس طرفاً فيها، إلا أن موقعه الجغرافي بين إيران ودولة الكيان الإسرائيلي، فضلاً عن التداخلات الجيوسياسية، تجعل فرضية بقائه بعيداً من تأثيراتها احتمالاً ضعيفاً.

منذ بداية الضربات الإسرائيلية على إيران، اتخذت بغداد موقفاً حذراً، فدانت العدوان الإسرائيلي، ودعت إلى ضبط النفس والعودة إلى طاولة المفاوضات بين إيران والولايات المتحدة، لحلّ القضايا العالقة، بما فيها برنامج إيران النووي.
إذ تدرك بغداد جيّداً أن استمرار الحرب يعني أن شرَرها، وربّما أكثرها إثارة للنيران، سيصل إلى العراق، فهناك حكومة تحاول منذ ما يقارب عاماً منع المليشيات المسلّحة، التي تدين بالولاء للمرشد الإيراني، من الانخراط في دعم حرب غزّة، على غرار ما يفعله أنصار الله الحوثيون في اليمن.

نعم، أطلقت مليشيات طائرات مسيّرة باتجاه دولة الكيان الإسرائيلي، وكانت هناك مخاوف من ردّ إسرائيلي على تلك المليشيات، لكنّ الولايات المتحدة تدخّلت حينها، ومنعت ذلك، بعد تعهّدات قطعها رئيس الوزراء محمّد شيّاع السوداني بقدرته على لجم تلك الفصائل والتفاهم معها.
وهو ما حدث، فكان أن سكتت أصوات المسيّرات التي انطلقت من العراق باتجاه فلسطين المحتلّة.
لكن الأمور، هذه المرّة، تبدو مختلفةً، فإيران (راعية المليشيات في العراق) تتعرّض للقصف من إسرائيل، ويُقتل عديدون من كبار قادتها العسكريين، بعضهم على صلة مباشرة بتلك المليشيات، وبعضهم يُعتبر الأب الروحي لمليشيات عراقية.
ورغم ذلك، تبدو الجبهة العراقية (حتى كتابة هذه السطور) هادئةً على غير العادة، فهل ستبقى كذلك، أم سيُجبر العراق على دخول ساحة الحرب؟

ليس من السهل أن يبقى العراق بعيداً من هذه المواجهة، التي تبدو في كثير من تفاصيلها مفصليةً، ليس لدول المنطقة فقط، بل للعالم أجمع، ففي ظلّ التغوّل الإسرائيلي المستمرّ منذ 7 أكتوبر (2023)، والتصريحات العلنية لرئيس حكومة دولة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه ماضٍ في تغيير الشرق الأوسط، تُعتبر إيران اليوم حجر عثرة أمام هذا "الشرق الأوسط الجديد"، الذي تطمح إليه تل أبيب، بدعمٍ من الولايات المتحدة.
بالنسبة إلى العراق، فهو، وإن كان أميركي الصيغة والتشكيل، منذ عام 2003، عقب إسقاط النظام السابق، إلا أنه لا يزال يتفاعل داخلياً مع طهران بشكل كبير، سواء من خلال الأحزاب الشيعية الموالية لإيران، أو من خلال المليشيات المسلّحة، التي تدين بالولاء للمرشد الإيراني ونظام ولاية الفقيه، بالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية التي نشأت في مدى عقدَين بين نظام بغداد وإيران.
هذه العوامل كلّها (ومعها أخرى)، تجعل من العراق هدفاً للرغبة الإسرائيلية والأميركية في "تحريره" من هذه التبعية.

تواجه بغداد ضغوطاً من الولايات المتحدة وإسرائيل لمنع استخدام أراضيها ضدّ إسرائيل، بينما تحوّلت الأراضي العراقية ممّراً للهجمات الصاروخية والجوية الإسرائيلية ضدّ إيران، والعكس صحيح، فالأجواء العراقية تسيطر عليها الولايات المتحدة بالكامل، ولا تسمح بأيّ فعل عراقي لحماية سيادته الجوية، فضلاً عن ضعف إمكانات الدفاع الجوي العراقي أصلاً.
وأعربت المليشيات المسلّحة في العراق عن تأييدها إيران في حقّها في الدفاع عن نفسها، وأرفقت ذلك بتظاهراتٍ في وسط بغداد تندّد بالحرب الإسرائيلية على إيران، مع بياناتٍ تؤكّد أنها على أهبة الاستعداد للوقوف إلى جانب إيران متى طلب المرشد علي خامنئي ذلك، إلى جانب تهديدات أخرى صدرت عن قيادات تلك المليشيات عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

وهنا نُذكّر أن تقارير نشرتها صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية قبل نحو شهر أكّدت أن إيران نقلت صواريخ بالستية إلى العراق تحسّباً لأيّ هجوم إسرائيلي محتمل، وهناك دلائل على أن إيران أنشأت مصانع لصناعة الطائرات المسيّرة والصواريخ في العراق، منها منطقة جرف الصخر جنوب بغداد، التي تسيطر عليها كتائب حزب الله منذ 2014.
إزاء ذلك كلّه، يبدو من الصعب أن يبقى العراق بمنأى عن المواجهة المستعرة بين إيران وإسرائيل، خصوصاً إذا طال أمد الحرب، وامتدت، وقرّرت الولايات المتحدة المشاركة فيها دعماً لحليفها الإسرائيلي، حينها، ستكون القواعد الأميركية في العراق تحت مرمى نيران المليشيات الموالية لإيران، ما قد يستدعي ردّاً أميركيّاً مختلفاً، وبالتالي انزلاق العراق إلى مرحلة تهدد استقراره الهشّ.

وقد تكون هذه بداية لمتغيّرات جديدة تُصيب الساحة العراقية بالتوازي مع متغيّرات قد تمتدّ إلى إيران، لتعيد تشكيل المنطقة والشرق الأوسط، كما تحدّث عنه نتنياهو مراراً، فهل سينجح (ومن خلفه الولايات المتحدة) في إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط؟ وهل يملك العراق القدرة على البقاء بمنأى عن تداعيات ما يجري؟

بتقدير كاتب هذه السطور، يقترب العراق من أن يصبح ساحةً لحربٍ جانبيةٍ على هامش الحرب الرئيسة ضدّ إيران.
فإذا شعرت إيران بأن حربها أصبحت وجوديةً، فلن تدّخر أيّ جهد أو ورقة لتخفيف وطأة المعركة عنها.
وهنا، لا بدّ من التذكير بوجود خلافات عميقة بين الأطراف العراقية حول ما يجري في المنطقة، فبينما تدعم جهات معيّنة حقّ إيران في امتلاك السلاح النووي وحربها ضدّ إسرائيل، هناك جهات عراقية أخرى، تضرّرت عقدَين من سياسات إيران في العراق، ترى في الحرب الإسرائيلية فرصةً للتخلّص من النفوذ الإيراني الثقيل في البلاد.