لم يجمع العرب على مسألة واحدة في تاريخهم، كما يجمعون على ضرورة التمسّك بضعفهم وهوانهم في هذه الفترة، مع ما يصاحب ذلك من موقفٍ يكاد يكون موحّداً بالتنكّر لكلّ ما يمتّ للمقاومة العربية بصلة، من خلال استهدافها بإجراءاتٍ وقراراتٍ مباشرة، أو بتسفيهها والسخرية منها واعتبارها مسؤولةً عن كلّ مشاكلهم.

تتنوع وسائل ممارسة الضعف، أو بالأحرى احترافه وإتقانه، من هذا العار المتكدّس في حدود فلسطين من جهة مصر، ويبيت ويصحو داخل مئات الشاحنات المعبّأة بالمساعدات القادمة من العالم إلى الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزّة، وتمرّ بجملة الضغوط السياسية والأمنية والإعلامية التي تمارس على المقاومة، وصولاً إلى حرمانها من أيّ حواضن شعبية، بقمع مظاهر التضامن الجماهيري معها، أو اعتبار وجودها تمثيليّاً في أيّ أرض عربية تهديداً للأمن القومي وخطراً وجودياً ينبغي التحذير منه وتحذيره من ارتكاب أيّ فعلٍ مقاوم في هذه الأرض، حتى لو كانت محتلّةً من العدو ذاته الذي يشنّ حرب إبادة ضدّها.

يتبدّى اتخاذ احتراف العجز خياراً استراتيجياً أكثر ما يتبدّى في حالتين سورية ولبنان، إذ تخضع الدولتان لاحتلال إسرائيلي مباشر، لكنّهما لا تتوقّفان عن تقديم إعلانات البراءة من المقاومة والخصام المطبق معها، والحرص على إظهار أنهما يمثلان الوجه المغاير والموقف المناقض لما كان سابقاً، بل والفخر بأنهما على قطيعة تامة مع كلّ ما كان يزعج الاحتلال أو يؤلمه أو يغضبه.

طوال الأسبوع الماضي، لم تتوقّف التوغّلات الصهيونية في الأراضي السورية المحتلة، حتى بلغت الاستهانة قصف محيط القصر الرئاسي لسلطة سورية الجديدة. وبموازاة هذا الفعل العدواني الصهيوني، لم تتوقّف مظاهر استهداف الإدارة السورية ما بقي في أرضها من ممثلين لفصائل المقاومة الفلسطينية، سواء المنتمية للإسلام السياسي أو المتصلة بتيار اليسار ممثّلاً في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة.

ولا يختلف الأمر كثيراً في لبنان، إذ تسير الاعتداءات الإسرائيلية على السيادة اللبنانية، من الجنوب حتى بيروت، جنباً إلى جنب مع الاستهدافات اللبنانية للمقاومة، سواء لبنانية ممثّلةً في حزب الله، أو فلسطينيةً تابعة لحركة حماس، إنْ بإجراءات أمنية مباشرة، أو بتحذيرها من فعل أيّ شيء يستفزّ الاحتلال أو يضايقه. والمدهش حقّاً في الحالتين السورية السورية اللبنانية، هو المطالبة بما تطالب به المقاومة الفلسطينية في اللحظة ذاتها التي يسلك فيها البلدان ضدّ ما تريده هذه المقاومة، ومن المفارقات أن تجد هذا النداء صادراً عن الرئاسة السورية بعد استهداف الطيران الإسرائيلي قصر الحكم في دمشق. الرئاسة السورية: "ندعو الدول العربية إلى توحيد مواقفها والتعبير عن دعمها الكامل لسورية في مواجهة هجمات إسرائيل".

النداء ذاته تقريباً تجده صادراً عن حركة حماس، وإن اختلفت الصياغة قليلاً. "حماس": "نوجّه نداءً صريحاً للحكومات العربية والإسلامية التي لم تقم بالواجب الذي يُنتظر منها لوقف المذبحة المفتوحة والمجاعة في غزّة. الحكومات العربية والإسلامية تمتلك أوراق ضغط فاعلة تستطيع استخدامها للضغط على واشنطن وداعمي العدوان لكنها لم تُفعّل بعد".

أنت هنا بصدد فانتازيا سياسية عربية غير مسبوقة مضمونها أن أنظمةً عربيةً تشكو ضربات الاحتلال وتستنهض الأمة لدعمها في التصدّي له، وفي الوقت نفسه، لا تتوقّف هذه الأنظمة عن استهداف حركات المقاومة التي تواجه هذا الاحتلال، الذي بلغت به صفاقته وثقته في عدم قدرة هذه الأنظمة على إزعاجه أن يعلن رئيس حكومته، بكلّ فخر، أنهم قتلوا كلّ القيادات التاريخية للمقاومة وأطاحوا نظام بشّار الأسد الذي كان يمثّل حلقة وصل بين إيران والمقاومة في لبنان.

في ظلّ هذه الوضعية العربية المشينة، تصبح جسارة اليمن في التعبير عن مروءته وانتمائه العربي الأصيل الذي يرى احتلال فلسطين قضية كلّ عربي حرّ، وأن الاعتداء على شعبها اعتداء على كلّ العرب، تصبح هذه الجسارة عملاً مستهجناً من كلّ الحكومات العربية الحريصة على إعلان عجزها وإظهار ضعفها بوصفه الخيار الاستراتيجي الذي لا تحيد عنه، ولا تغادره إلا حين تحاول أن تظهر قدراتها في مكافحة كلّ أشكال المقاومة على أراضيها.