أي شخص يحاول فهم سياسة إدارة ترامب تجاه غزة قد يشعر بصداع شديد.
ففي البداية، دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الطرد الجماعي للفلسطينيين من القطاع المدمر، ليحول المكان إلى "ريفييرا الشرق الأوسط". ثم أصدر تهديدًا صريحًا بالإبادة ضد سكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني شخص، قائلًا إنهم سيكونون "أمواتًا" إذا لم يتم إطلاق سراح أسرى الاحتلال الصهيوني، وهو أمر خارج سيطرتهم تمامًا.
ولتأكيد تهديده، سارعت إدارته إلى تمرير صفقة أسلحة بقيمة 4 مليارات دولار إلى كيان الاحتلال دون الرجوع إلى الكونجرس.
تضمنت هذه الصفقة قنابل تزن 2000 رطل، استخدمتها إدارة بايدن سابقًا لتحويل غزة إلى "موقع هدم".
بالإضافة إلى ذلك، وافق البيت الأبيض على إعادة فرض الحصار الصهيوني، مما أدى إلى تفاقم أزمة الغذاء والمياه والوقود، ما يُعد دليلًا إضافيًا على نوايا الاحتلال الإبادية.
لكن في خضم هذا التصعيد، أرسل ترامب مبعوثه الخاص آدم بوهلر، إلى المنطقة للتفاوض بشأن إطلاق سراح أسرى الاحتلال الصهيوني المحتجزين لدى حماس.
في خطوة غير مسبوقة، التقى بوهلر مباشرة مع ممثلي حماس، وهو أمر كان محظورًا في السياسة الأمريكية لثلاثة عقود.
الكيان الصهيوني في موقف حرج
تم اللقاء دون علم سلطات الاحتلال، ما أثار استياء مسؤولي الاحتلال الذين اعتبروا أن التعامل مع حماس سرًا يتناقض مع الدعم الأمريكي المعلن للحرب ضدها.
لكن سلطات الاحتلال التزمت الصمت خوفًا من إغضاب ترامب.
في مقابلة تلفزيونية، قال بوهلر عن ممثلي حماس: "ليس لديهم قرون على رؤوسهم، إنهم أناس عاديون مثلنا".
كما كشف أن حماس عرضت هدنة مدتها 5 إلى 10 سنوات تتخلى خلالها عن السلاح والسلطة في غزة، ووصف العرض بأنه "بداية جيدة".
في الوقت ذاته، أرسل ترامب مبعوثه الآخر، ستيف ويتكوف، إلى الدوحة لاستئناف محادثات وقف إطلاق النار التي كان قد تفاوض عليها سابقًا.
يتضمن الاتفاق انسحاب جيش الاحتلال الصهيوني من غزة وبدء عملية إعادة الإعمار، لكن سلطات الاحتلال تعارض بشدة هذه المرحلة، إذ تفضل الاستمرار في تبادل الأسرى فقط، ثم استئناف عملياتها العسكرية.
التراجع عن الخطط السابقة
رغم تصريح ترامب مؤخرًا بأنه لن يسمح بطرد الفلسطينيين من غزة، إلا أنه أقال بوهلر من ملف المفاوضات استجابة لاعتراضات صهيونية.
وفي خطوة أخرى، وقع أمرًا تنفيذيًا يسمح باعتقال وترحيل الطلاب الأجانب المشاركين في احتجاجات مؤيدة لفلسطين، تحت ذريعة دعم الإرهاب.
بالفعل، تم اعتقال الناشط محمود خليل، أحد قادة الاحتجاجات في جامعة كولومبيا، بحجة أن أنشطته تتماشى مع أجندة حماس.
كما أعلن البيت الأبيض عن قطع تمويل قدره 400 مليون دولار عن الجامعة، مهددًا مؤسسات تعليمية أخرى بعواقب مماثلة إن لم تتخذ إجراءات لحماية الطلاب اليهود، في إشارة إلى المؤيدين للاحتلال الصهيوني.
تناقضات استراتيجية
تعكس هذه السياسات المتضاربة نهج إدارة ترامب في التعامل مع الأزمات.
وكما لاحظت فرانشيسكا ألبانيزي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة، فإن استراتيجية ترامب تعتمد على إرباك الخصوم عبر تناقضات متعمدة، مما يؤدي إلى تطبيع الخطاب العبثي.
يتكرر هذا النهج في أوكرانيا، حيث تتحدث إدارة ترامب مع روسيا، وتضغط على كييف للتخلي عن عضوية الناتو، بينما تواصل تهديد موسكو بعقوبات جديدة. الهدف هو جعل التناقضات والازدواجية أمرًا مألوفًا، مما يضع الجميع في حالة من الارتباك والعجز عن المواجهة.
فخ عدم الشرعية
على الرغم من تغير الأساليب، تظل الإدارة الأمريكية متمسكة بالنهج التقليدي تجاه القضية الفلسطينية، حيث تضع الفلسطينيين في "فخ عدم الشرعية". فسواء تبنت الفصائل الفلسطينية المقاومة المسلحة أو المسار الدبلوماسي، يتم تصنيفها على أنها إرهابية أو غير شرعية.
حماس اختارت المقاومة المسلحة، وهو حق يكفله القانون الدولي، لكنها تعرضت لعقوبات دولية وحصار مشدد.
أما فتح، التي اتبعت طريق الدبلوماسية، فقد وجدت نفسها في مأزق، حيث لم تقدم سلطات الاحتلال أي تنازلات حقيقية، بل زادت من عمليات الاستيطان، والآن تستعد لضم أجزاء من الضفة الغربية بدعم أمريكي.
نهاية الوضع القائم
بينما ترفض النخبة السياسية في واشنطن وأوروبا لقاءات ترامب مع حماس، وتعتبرها خروجًا عن الإجماع الغربي، إلا أن سياساته تشير إلى نيته إنهاء الوضع الراهن.
في أوكرانيا، يسعى ترامب إلى إنهاء الحرب عبر الضغط على كييف للاستسلام.
أما في غزة، فيبدو أنه يريد التخلص من المشكلة الفلسطينية بأي طريقة، سواء عبر تهجير السكان أو فرض تسوية قسرية.
في النهاية، قد يكون ترامب مزيجًا من صانع سلام يهدد النظام القديم، وفاشيٍّ يعيد تشكيل العالم وفق مصالحه الخاصة.
لكنه بلا شك يخلق حالة من الفوضى التي تجعل من الصعب التنبؤ بما سيحدث لاحقًا.
https://www.middleeasteye.net/opinion/us-forever-wars-may-be-over-trump-no-peacemaker