بالنسبة لمن يخشون أن يكون دونالد ترامب مستبدًا في طور التكوين، فلا داعي للقلق: لديه الإجابة.
فقد أعلن في خطابه عن حالة الاتحاد قائلاً: "لقد أوقفت كل أشكال الرقابة الحكومية وأعدت حرية التعبير إلى أمريكا". 

كما أكد السيناتور جي دي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن الشهر الماضي أن "حرية التعبير في تراجع" عبر أوروبا.

لكن كما هو الحال مع كل العقائد السلطوية، فإن الترامبية تقلب الواقع رأسًا على عقب، وتفرغ الكلمات من معانيها لنشر الارتباك بين منتقديها.
ففي اليوم نفسه الذي أعلن فيه ترامب عن "عودة" حرية التعبير، نشر على منصته "تروث سوشال" أنه سيتم قطع التمويل الفيدرالي عن المؤسسات التعليمية التي تسمح بـ"الاحتجاجات غير القانونية"، دون توضيح ماهية هذه "اللاشرعية". 

لكن القضية التي يشير إليها ترامب بوضوح هي فلسطين، حيث هدد بأن "المحرضين سيتم سجنهم أو ترحيلهم نهائيًا"، في حين أن الطلاب الأمريكيين "سيتم طردهم نهائيًا أو اعتقالهم بناءً على الجريمة المرتكبة"، مضيفًا: "لا للأقنعة!".
 

استهداف الجامعات وإجراءات قمعية
   كان الهدف الأول لترامب جامعة كولومبيا، التي خسرت 400 مليون دولار من التمويل الفيدرالي، بزعم "عدم اتخاذ إجراءات حاسمة ضد المضايقات المستمرة للطلاب اليهود".
وهناك تسع جامعات أخرى مهددة بمصير مماثل، منها جامعة هارفارد وجامعة كاليفورنيا.

لكن ما الذي حدث في هذه الجامعات؟ كانت هذه المؤسسات موقعًا لاعتصامات طلابية سلمية إلى حد كبير احتجاجًا على هجوم الاحتلال الصهيوني المستمر على الفلسطينيين، ودعوا جامعاتهم إلى سحب استثماراتها من الشركات المرتبطة بالاحتلال.
ورغم ذلك، فإن ترامب لا يمثل بأي حال من الأحوال نصيرًا لحرية التعبير أو لمكافحة العنصرية، بل العكس تمامًا.
فقد تم بشكل منهجي خلط النقد الموجه للاحتلال الصهيوني مع معاداة السامية، وهو ما يتضح من تصريحات إليز ستيفانيك، السفيرة الأمريكية الجديدة لدى الأمم المتحدة التي اختارها ترامب، والتي أصبحت رمزًا لليمين المتطرف بعد مواجهتها لرؤساء الجامعات بشأن الاحتلال الصهيوني.
 

ازدواجية ترامب وحلفائه
   يتعاون ترامب مع شخصيات بارزة مثل إيلون ماسك، الذي دعم تصريحات معادية للسامية ورفع التحية النازية في أحد تجمعات ترامب.
كما أن تصريحات ترامب بشأن اليهود الأمريكيين الذين يدعمون الديمقراطيين -وهم الأغلبية العظمى- كانت صادمة، حيث اتهمهم بأنهم "يكرهون دينهم" و"يجب أن يخجلوا من أنفسهم"، محذرًا من أنهم "سيتحملون الكثير من اللوم" إذا خسر الانتخابات.

لكن ما يفضح نفاق هذه السياسة أن العديد من اليهود الأمريكيين كانوا جزءًا من هذه الاحتجاجات، حيث وقع مئات الطلاب اليهود على رسالة ترفض تصوير الاعتصامات على أنها معادية للسامية.
وفي جامعة كولومبيا نفسها، تم حظر منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" قبل بدء الاعتصام، وواجه الطلاب قمعًا شديدًا شمل اعتقال أكثر من 100 طالب وطرد بعضهم وتأديبهم، كما تم استهداف أساتذة متعاطفين معهم، مثل البروفيسورة كاثرين فرانكي، التي أُجبرت على التقاعد بعد تعرضها لهجوم علني من ستيفانيك.
 

قمع لا يتوقف
   الأمر لم يقتصر على القمع الأكاديمي، بل امتد ليشمل احتجاز أحد قادة الاعتصام، محمود خليل، وهو فلسطيني يحمل البطاقة الخضراء ومقيم في الولايات المتحدة ومتزوج من مواطنة أمريكية حامل في شهرها الثامن.
أُرسل خليل إلى مركز احتجاز في لويزيانا على بعد أكثر من 1000 ميل عن منزله، بزعم "قيادته لأنشطة مرتبطة بحماس"، في محاولة واضحة لربط التضامن مع فلسطين بالمقاومة.
 

حرية التعبير في خطر
   بدلًا من إعادة حرية التعبير، تقوم إدارة ترامب بالقضاء على التعديل الأول للدستور الأمريكي.
عندما يتعلق الأمر بفلسطين، لا وجود لحرية التعبير. حتى نائب الرئيس جي دي فانس، الذي صرح مؤخرًا بأن القادة يجب أن يكونوا "مستعدين للدفاع عن الناس حتى لو اختلفوا معهم"، لم يحرك ساكنًا. الحقيقة هي أن اليمين الأمريكي لم يكن مهتمًا يومًا بحرية التعبير، بل استغلها كأداة لتبرير هجماته على الأقليات.

تتعرض أمريكا اليوم لأوسع هجوم على حرية التعبير منذ حقبة المكارثية، حيث يتم استهداف المناهضين للحرب على غزة عبر التشهير بهم وقمعهم أكاديميًا وسياسيًا.
ولم يكن اليمين المتطرف وحده من ساهم في ذلك، بل انضم إليهم بعض "الليبراليين" و"الوسطيين"، مما شرّع القمع الذي نشهده اليوم.

وكما تحذر سيمون زيمرمان، المؤسسة المشاركة لحركة "إذا لم يكن الآن"، فإننا نشهد "النتيجة المنطقية المخيفة لوصم أي شخص يدعو لحرية الفلسطينيين بأنه معادٍ للسامية: إدارة قومية بيضاء تشن حربًا على الحقوق المدنية وحرية التعبير تحت شعار مكافحة معاداة السامية".

ما يجري اليوم قد لا يتوقف عند فلسطين فقط، بل قد يمتد ليشمل مزيدًا من القيود على الإعلام والمعارضين السياسيين.
فمع تهديد ترامب بالإجراءات القانونية ضد الصحافة وخضوع بعض الأثرياء مثل جيف بيزوس لضغوطه، فإن حرية التعبير تتعرض لهجوم ممن يزعمون أنهم أكبر المدافعين عنها.

https://www.theguardian.com/commentisfree/2025/mar/11/free-speech-donald-trump-columbia-university-israel-palestine