لم تكن الحرب التي اندلعت بين المقاومة الفلسطينية في غزة والاحتلال الإسرائيلي عسكرية فقط، بل امتدت لتشمل حربًا نفسية وإعلامية شديدة التأثير، قلبت فيها حركة حماس المعادلة رأسًا على عقب.

وجاءت مشاهد تسليم الأسيرات الإسرائيليات إلى الصليب الأحمر لتشكل واحدة من أقوى لحظات هذه المواجهة غير التقليدية، حيث تحولت لحظات الإفراج إلى ساحة معركة على الوعي الجماهيري، في الداخل الإسرائيلي والدولي، وهو ما أثار قلق الخبراء الإسرائيليين الذين وصفوا المشهد بأنه "نكسة إعلامية ونفسية للاحتلال".

 

حماس.. من المعركة العسكرية إلى المعركة النفسية

رغم الخسائر الفادحة التي تكبدها الاحتلال الإسرائيلي خلال عدوانه على غزة، فإن تداعيات المعركة النفسية لا تقل إيلامًا عن الخسائر العسكرية، فقد كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن حجم القلق الذي أصاب الدوائر الأمنية والسياسية في إسرائيل، بسبب الطريقة التي صممت بها حماس مراسم تسليم الأسيرات، وكيف استطاعت تحويل لحظة إطلاق سراحهن إلى "عرض دعائي موجه بعناية".

وأكد غادي عيزرا، المدير السابق لمركز المعلومات الإسرائيلي ومؤلف كتاب "11 يومًا في غزة"، أن حركة حماس نفذت استراتيجية إعلامية مدروسة خلال تسليم الأسيرات، استهدفت ثلاثة مستويات رئيسية:

الرأي العام الدولي: من خلال استخدام مصطلحات تروج لشرعيتها، مثل اللافتة التي حملت عبارة "انتصار المظلومين على النازية الصهيونية"، وهو ما يتماشى مع الاتجاهات العالمية التي تضع القضايا في إطار الظالم والمظلوم.

الجمهور الفلسطيني: عبر إظهار القوة والسيطرة، باستخدام الزي الرسمي للمقاومين، والختم الرسمي للحركة، والجماهير المحتشدة التي شاركت في وداع الأسرى الإسرائيليين، وهو ما يعزز صورة "الحكم والسيادة" في غزة.

الإسرائيليون أنفسهم: من خلال التحكم في المشهد، وإجبار الأسيرات على قول كلمات معينة، وارتداء ملابس بعينها، وظهور لافتة باللغة العبرية تحمل عبارة "الصهيونية لن تنتصر"، مما شكل تحديًا مباشرًا للهوية الوطنية الإسرائيلية، وأثار تساؤلات في الداخل الإسرائيلي عن مدى تماسك المجتمع في مواجهة هذه الضربات النفسية.

 

كيف أذكت حماس الغضب الإسرائيلي؟

في تقرير نشرته صحيفة "معاريف"، وصفت الخبيرة الإعلامية ليلاخ سيغان المشاهد التي بثتها حماس بأنها "حرب نفسية متقدمة" تستهدف كسر الروح المعنوية للإسرائيليين، وتؤكد فشل الحكومة في التعامل مع الأزمة.

وأشارت إلى أن المشاهد التي أظهرت الأسيرات وهن يتلقين معاملة "طيبة" من مقاتلي حماس، ويشكرنهم عند المغادرة، بل ويحصلن على شهادات وهدايا، كانت صدمة قاسية للمجتمع الإسرائيلي، حيث جاءت مخالفة تمامًا للصورة النمطية التي يسعى الاحتلال لتسويقها حول "وحشية المقاومة".

وقالت سيغان: "هذه المشاهد تحمل رسائل متعددة، أولها أن حماس تسيطر بالكامل على غزة، وثانيها أنها تعامل المختطفين بطريقة متحضرة، وثالثها أنها توجه ضربات نفسية قاسية للإسرائيليين، الذين رأوا أسيراتهم يبتسمن أمام الكاميرات أثناء تسليمهن."

 

هجوم السابع من أكتوبر.. كابوس يلاحق إسرائيل

أحد أكبر المخاوف الإسرائيلية اليوم هو أن تصبح هذه المشاهد جزءًا من ذاكرة المجتمع الإسرائيلي، مما يعمق أزمة الثقة في الحكومة ويعزز الانقسام الداخلي، فقد ذكر تقرير صادر عن مركز الأبحاث الأمنية الإسرائيلي أن "حماس نجحت في إبقاء الإسرائيليين عالقين نفسيًا في كابوس السابع من أكتوبر، عندما شنت هجومها المباغت".

وأضاف التقرير أن إسرائيل تجد صعوبة في تجاوز تلك اللحظة، حيث أصبحت "رمزًا للفشل الاستخباراتي والعسكري"، وهو ما تحاول حماس استغلاله إعلاميًا عبر مشاهد مدروسة بعناية، مثل تلك التي ظهرت خلال صفقة التبادل.

 

"لن نتفاوض".. لكننا تفاوضنا!

لطالما أعلنت حكومة بنيامين نتنياهو أنها "لن تتفاوض مع الإرهابيين"، لكن ما حدث على أرض الواقع أثبت العكس تمامًا، فبعد ضغوط داخلية وخارجية، وجدت الحكومة نفسها مجبرة على الدخول في صفقة تبادل، وهو ما اعتبره الخبراء "انتصارًا جديدًا لحماس"، التي أثبتت أنها قادرة على فرض شروطها.

وفي هذا السياق، قالت سيغان: "إسرائيل أعلنت أنها لن تتفاوض، لكنها تفاوضت، وقالت إنها لن تتراجع، لكنها تراجعت، هذه ليست مجرد صفقة تبادل أسرى، بل هي علامة على أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن اليد العليا باتت بيد حماس، ليس فقط عسكريًا، بل نفسيًا وإعلاميًا."

 

هل تغيرت معادلة الصراع؟

تشير التحليلات إلى أن هذه الحرب الإعلامية، التي أدارتها حماس بمهارة، أحدثت تحولًا في معادلة الصراع، فبعدما كان الاحتلال هو الطرف الذي يملي الشروط ويسيطر على المشهد، أصبح اليوم في موقف الدفاع، يواجه ضغوطًا داخلية وغضبًا شعبيًا، وسط مطالب متزايدة بإعادة النظر في الاستراتيجية المتبعة مع غزة.

وبحسب تقرير صادر عن صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن إسرائيل تحتاج إلى "نهج جديد لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل يشمل استراتيجية طويلة الأمد تستهدف تقويض قوة حماس بشكل شامل".